بقلم: جمال زقوت
تتنامى في المجتمع الفلسطيني منذ مدة ليست بقليلة مظاهر اجتماعية تظهر الخطر المباشر على تفكك العقد الاجتماعي، وتعكس مدى ضعف وهشاشة أو حتى غياب السلطة ودورها في إنفاذ القانون، والتي تصل أحيانًا إلى أن بعض العناصر والجهات المكلفة بإنفاذ القانون تتخلى طواعية عن هذا الدور أمام “سطوة” مُدّعِي “السلطة الدينية” الذين يعملون ليل نهار لإقصاء السلطة المتهاوية في معظم مدن الضفة الغربية.
فشل المؤسسة الرسمية في القيام بواجباتها المنوطة بها يشكل السبب الأساسي لفقدانها الهيبة التي تمثل جوهر السلطة العادلة والفاعلة. فهذان العنصران لفلسفة الحكم باتا مُغيَّبين في سلوك وبنية المؤسسة الرسمية المدنية والأمنية، والتي للأسف باتت في نظر عامة الناس لا تحظى بالشرعية والاحترام، الأمر الذي يساهم باضطراد في اتساع الفجوة وحالة الفراغ وازدياد مخاطرهما، ذلك كله في ظل غياب أي أفق سياسي أو رغبة حقيقية في التغيير قد يعيد الأمل للناس.
هذه الحالة تشكل بيئة خصبة للعديد من الجهات المحلية وأجنداتها الاجتماعية وربما السياسية، والتي تعمل بأقصى طاقتها لاستثمار هذا الفراغ الناجم عن تغييب القانون وغياب مؤسسات إنفاذه. الأمر الذي يفسر الأحداث التي جرت في الآونة الأخيرة في عدد من المناطق والجامعات آخرها ما جرى في جامعة النجاح، وتكرار محاولات أخذ القانون باليد، وبالهجوم والضرب والتشويه بإدعاء “الوصاية الإلهية” على سلوك الناس، وحرياتهم الشخصية. إن هذه الفوضي وصلت لشبهة “تواطؤ” أو صمت بعض عناصر المؤسسة الأمنية خلال هذه الأحداث، أو حتى تخليها عن حماية المواطنين عندما تعرضوا للضرب والإصابات في أحد مطاعم رام الله كما حدث قبل أيام، طبعاً هذا بالإضافة لما يجري من انتهاكات متواصلة من قبل سلطة حماس في قطاع غزة وآخرها الاعتداء المسلح على سكان قرية أم النصر البدوية شمال بيت لاهيا والذي أدى لإصابة عدد من المواطنين.
شعور المؤسسة الرسمية بالضعف وعدم الثقة بدورها هو ما يفسر خضوعها للخطاب “الأصولي الظلامي” من ناحية، أو مشاركة بعض عناصر مؤسستها الأمنية في عدد من مظاهر الفوضى التي يتم فيها أخذ القانون باليد من ناحية أخرى.
إن الاحتقانات الاجتماعية التي تعمق الأزمة بين المؤسسة الرسمية والناس لا يمكن معالجتها بالقبضة الأمنية، بقدر ما تتطلب إعادة الاعتبار لمقومات العدالة والقانون ومؤسسة السلطة القضائية التي جرى أيضاً وما زال يجري تقويض استقلاليتها وحَيْدِيَّتها وهيبتها، الأمر الذي يعمق بصورة خطيرة فقدان الثقة بها، ويزيد من مظاهر محاولات أخذ القانون باليد.
إن مظاهر الفوضى والخطاب الأصولي الظلامي الذي سرعان ما يحوِّل احتجاجًا شعبياً مشروعاً ضد الغلاء إلى مظاهرة غوغائية ضد المؤسسات النسوية والحقوقية التي تناضل من أجل حرية المجتمع والمرأة من الاحتلال والظلم، وتدعو للمساواة بين جميع المواطنين بما في ذلك بين المرأة والرجل، بذرائع وادعاءات أن هذه المؤسسات تشجع على “الانفلات الاجتماعي”، هذا في وقت أن السلطة الوطنية، التي التزمت أمام شعبها أولاً والعالم ثانياً باتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد النساء”سيداو”، تقف جانباً إزاء كل أشكال التحريض الذي تتعرض له المناضلات النسويات ومجمل الحركة النسوية، وأمام محاولة فرض خطاب ترهيبي يأتي في سياق محاولات فرض “سلطة غيبية” موازية أو بديلة عن سلطة القانون.
إن الخطر الأساسي على المؤسسة الرسمية يتمثل بالإضافة للانفلات الأصولي، بالفوضى الناجمة في جزء منها عن صراع المجموعة المهيمنة على السلطة ومقدرات المجتمع وانشغالها في ترتيبات ما يمكن تسميته “بتوريث الخلافة”، أو استكمال السيطرة الانقلابية الممتدة منذ خمسة عشر عاماً، في وقت يتسارع فيه انفضاض المجتمع عن مجمل الطبقة السياسية الحاكمة والمهيمنة على المشهد الانقسامي بجناحيه، دون أن تتقدم أي جهة ثالثة لتقديم إجابات عملية لحماية النسيج الاجتماعي والمصير الوطني لشعبنا وقضيته.
هذه المظاهر وغيرها تذكرنا بما كان يجري قبل خمسة عشر عاما في قطاع غزة، جرّاء وهن وعُزلة السلطة الوطنية حينها، وهي لا يمكن أن تعالج بقوة القبضة الأمنية أو ممارسة العنف، فهي تشكل انعكاساً لمظاهر تفكك العقد الاجتماعي، وفشل البرنامج السياسي، وتهميش الرأي العام واستبداله بحفنة من المنتفعين المُضَلِلين وما ولده ذاك من تشويش على الهوية الوطنية وتمزيق للمؤسسة الجامعة. ما نحن بحاجة إليه هو موقف رسمي ينبع من إدراك عميق بضرورة المراجعة كي لا تأخذهم العزة بالإثم، كما أن على القوى والشخصيات الوطنية والتقدمية، بمن فيها تلك المعارضة للسلطة، تحمل مسؤولياتها في هذه اللحظة المفصلية التي تأتي في لحظة الهجوم الإسرائيلي الاستراتيجي على قضيتنا بهدف تركيع شعبنا، مستثمرة حالة ضعف واحتواء السلطة، الأمر الذي يفرض على الجميع التداعي لعقد لقاء وطني عريض أو ما يمكن تسميته بمؤتمر شعبي يحدد المرتكزات المجتمعية المطلوب صيانتها للخروج من المأزق الذي يلتف حول أعناقنا، وفي مقدمتها حماية النسيج الاجتماعي وصون السلم الأهلي، ومجمل المنجزات التقدمية والديمقراطية التي سبق وحققها شعبنا في مجرى كفاحه الطويل من أجل الحرية والاستقلال.
صحيح أن وقت التغيير قد حان، ولكن الفوضي والأنانية أعداء مراكمة القدرة على إحداث التغيير المطلوب والمتدرج، والذي يعيد تصويب بوصلة ومسار الكفاح الوطني للخلاص من الاحتلال، وما يتطلبه ذلك من حماية الحريات والنسيج الوطني الاجتماعي، وإعلاء شأن العدالة وسيادة القانون والحقوق الدستورية للمواطنين، وفي مقدمتها حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية، وحقهم في المشاركة السياسية وانتخاب ممثليهم. وإلّا “فسنؤكل جميعاً مثلما يُؤكل الثور الأبيض.”
لقد شكلت فكرة تأسيس الحراك من أجل الوطن والعدالة والديمقراطية “وعد” محاولة جادة استقطبت في حينه اهتماماً جدياً من مختلف القطاعات الاجتماعية وفي سائر المناطق، إلا أن هذا الحراك سرعان ما تعرض لهجمة غير مبررة من اتجاهات متعددة التقت على رفض ومعاداة فكرة التغيير والتجديد في الحياة العامة، بما في ذلك من بعض أولئك الذين يدعون الحرص على الديمقراطية والتغيير، إلا أن الحاجة لهذه الفكرة ما زالت قائمة. فهل يمكن العودة إليها واستخلاص العبر من تلك التجربة بما لها وما عليها نحو إمكانية الإسهام في نهوض يؤسس مع كل الجهود المخلصة الأخرى لبلورة تيار وطني ديمقراطي عريض جوهر وظيفته حماية المجتمع وتعزيز صموده وحصانته الوطنية؟ الإجابة بالتأكيد هي برسم كل الغيورين على صون تنوع المجتمع وتعدديته الفكرية والسياسية واستعادة الأمل لأجياله القادمة، والابتعاد دوماً عن ادعاءات احتكار الفضيلة والحقيقة.
Comments are closed.