بقلم: د. دلال صائب عريقات
بعد زيارة بايدن، نرى مرة أخرى أن سياسة أمريكا تجاه الملف الفلسطيني غارقة في التناقض والمماطلة والنفاق والانحياز لدولة الاحتلال سواء من الديمقراطيين او الجمهوريين.
بينما أعلن الرئيس الديمقراطي عن التزامه تجاه حل الدولتين وتقديمه دعم مالي بـ 316 مليون دولار والـ 4G وتسهيل اجراءات العبور عبر جوازات سفر ذكية واستمرار عمل الجسر لمدة 24 ساعة بنهاية سبتمبر وتصاريح عمل لقطاع غزة، في الحقيقة لم يتخذ أي خطوات ملموسة لدفع السياسة إلى الأمام.
لقد فوت بايدن فرصة وأكد نواياه السلبية تجاه السلام العادل والحقوق المتساوية في منطقتنا. بالنظر إلى البيئة الدولية الحالية وعلاقات الاقليم فإن مثل هذه الفرص نادرة أو حتى ستصبح مستحيلة، ومع ذلك، لا يزال دور الولايات المتحدة بالغ الأهمية، المأساة والحقيقة أن كلا من الفلسطينيين وحلفائهم في الشرق الأوسط يؤمنون بقوة بأن التغيير السياسي لا يمكن أن يحدث إلا بالمشاركة الأمريكية والضغط على إسرائيل. بينما يعتقد الامريكان أن أفضل طريقة لتأمين التعاون بين الإسرائيليين والفلسطينيين هي بناء النتائج تدريجياً بمرور الوقت وبناء خطوات الثقة وإثبات النوايا الجادة. لقد كانت “استراتيجية الحصافة” هذه فاشلة تماما وعلى مدى عقود، لم تنجح في حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي أو بناء الثقة أو إظهار جدية الإدارة الأمريكية.
من السذاجة، أن يضغط بايدن على زر التكرار الذي سئمنا منه؛ كان يتوجب على بايدن أن ينتزع هذه القضية ويتخذ موقفًا ملموسًا: كحد أدنى إعادة فتح القنصلية الأمريكية في القدس التي أغلقها الرئيس ترامب والتي كانت مخصصة للشؤون الفلسطينة؛ إعادة فتح القنصلية لها أبعاد جوهرية ورمزية؛ استعادة العلاقة التاريخية بين الولايات المتحدة والشعب الفلسطيني التي يعود تاريخها إلى عام 1844 واحترام حق الفلسطينيين في تقرير المصير، بدلاً من معاملة الفلسطينيين كأقلية ترجمة لوعد بلفور 1917.
كانت أنشطة القنصلية دليلاً دبلوماسياً على أن المدينة لا تخص الإسرائيليين أو اليهود وحدهم. في عام 1844 عين جون تايلر الرئيس العاشر أول قنصل أمريكي في القدس لتوطيد العلاقات الفلسطينية الأمريكية. اي كانت موجودة قبل مؤتمر بازل الذي قرر إقامة الدولة الصهيونية.
نقل ترامب السفارة الأمريكية إلى القدس وخفض تصنيف القنصلية إلى “وحدة” تحت مظلة السفارة، وفي أعقاب قرار ترامب قاطع الفلسطينيون إدارته. عادت العلاقات الفلسطينية الأمريكية إلى الحياة مرة أخرى مع وصول بايدن إلى البيت الأبيض على أمل تصحيح الضرر الذي تسبب به سلفه تمامًا كما فعلت إدارة بايدن في الواقع لإلغاء العديد من قرارات ترامب من المكسيك إلى أوروبا وإيران واليمن وأفغانستان. كان إغلاق القنصلية مؤلمًا بشكل خاص لانتهاكه اتفاقيات السلام الموقعة والقانون الدولي واتفاقيات جنيف وقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة التي تحافظ على حقوق الفلسطينيين السياسية والإنسانية داخل حدود عام 1967.
كان مصير القنصلية بمثابة اختبار لالتزام إدارة بايدن الفعلي بحقوق الفلسطينيين منذ الادارة السابقة. عندما زار وزير الخارجية أنطوني بلينكن في مايو 2021، وعد الفلسطينيين علنًا بأن الإدارة الديمقراطية ملتزمة بإعادة فتح قنصلية القدس. مر عام وكانت هناك حركة لغوية صغيرة واحدة فقط: في يونيو 2022 أصبحت “وحدة الشؤون الفلسطينية” داخل السفارة “مكتب الشؤون الفلسطينية”.
بالنسبة للفلسطينيين، هذه كلها أعذار لا تنتهي. إذا كانت إدارة بايدن جادة حقًا، فعليها التوقف عن المماطلة والبدء في وضع الحقائق على الأرض وإعادة فتح القنصلية التاريخية- ومكتب تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن العاصمة واسقاط صفة الارهاب عن المنظمة.
الدولة التي تمنح إسرائيل اكثر من 3.8 مليار دولار بشكل دعم عسكري سنوي غير الدعم الخاص بالتكنولوجيا والبيئة والابحاث والفضاء والصحة، تستطيع استخدام نفوذها وعمقها لفتح قنصلية خاصة بها في القدس! لكن التسويف الأمريكي لطالما كان نعمة للاحتلال ولعنة للفلسطينيين. أدى التسويف والمماطلة الامريكية إلى تمكين النمو الهائل في المستوطنات وعمليات تهجير وإخلاء قسري وعمليات إعدام ميدانية وتمكين نظام الفصل العنصري الإسرائيلي على حساب الحقوق الفلسطينية السياسية وحقوق الإنسان.
كما سهلت قرارات إدارة ترامب، التي لم يتراجع عنها بايدن، الضم الفعلي المستمر للقدس وعملت على تحويل الصراع وإعادة تأطيره إلى حرب دينية.
من الشيخ جراح إلى سلوان، من غزة إلى جنين إلى بيتا ومسافر يطا، ومن شيرين أبو عاقلة إلى عنف المستوطنين، نتعرض نحن الفلسطينيين للعديد من الصدمات والجرائم التي غالبًا ما يفهمها العالم الخارجي على أنها منفصلة عن بعضها البعض بدلاً من إدراك انها تقع جميعها تحت مظلة الاحتلال. هذا هو الجوهر الذي يأتي منه عمق تصريح بايدن أنه سيلغي قرار ترامب ويعيد فتح قنصلية القدس، تصريح بأن هناك احتلالًا واحدًا وشعبًا فلسطينيًا واحدًا وحاجة ماسّة واحدة هي: إنهاء احتلال الشعب الفلسطيني. إنه تصريح بأن دولة إسرائيل المعترف بها منذ فترة طويلة يجب أن يكون لها حدود، إنه تصريح بأن البراغماتية التبادلية لاتفاقات إبراهيم بدون إشراك الفلسطينيين، لا يمكن أن تحقق السلام الحقيقي في المنطقة.
الآن، وبعد عدم تمكن بايدن من الإدلاء بهذه العبارات، وترجمته للحقوق السياسية على شكل رزمة تسهيلات اقتصادية وانسانية، يتعين على الولايات المتحدة التوقف عن التظاهر بأنها تدافع عن حل الدولتين، حيث تعمل دولة الاحتلال بالفعل على ترسيخ واقع الدولة الواحدة بأدوات وسياسة الفصل العنصري الموثق.
– دلال عريقات: أستاذة الدبلوماسية والتخطيط الاستراتيجي، كلية الدراسات العليا، الجامعة العربية الأمريكية.
Comments are closed.