بقلم: نبيل عمرو
إنّ أكبر خطر يواجهه “فتح” والوطن الفلسطيني يكمن في اقتناع أصحاب القرار في “فتح” والوطن بأنّ الأمور على الرغم من هول كلّ ما يجري من تراجعات وانهيارات هي في أفضل حال.
هكذا يقول كثيرون منهم، وما داموا مقتنعين بذلك أو يتظاهرون بالاقتناع فلا أمل برؤية خطوة واحدة في الاتّجاه المطلوب.
فتح” الطاردة هي التي يملك أولو الأمر فيها قرار فصل أيّ عضو مهما كانت رتبته.
و”فتح” المطرودة هي كلّ الذين صدر قرار بفصلهم وأسّسوا لأنفسهم عناوين مطبوعة بختم “فتح”.
أمّا “فتح” الغافلة فهي التي تشاهد بأمّ العين تدهور حال الوطن والقضيّة، وتمضي فيما هي عليه من تصارع واحتراب داخلي، ومن دون أن تقدم على مبادرة ولو من أجل وقف التدهور.
لا يمرّ يوم إلا وتظهر فيه قضيّة خلافيّة حادّة داخل جسم “فتح”، بالتزامن مع حالات تنتج اضطرابات وتظاهرات وتذمّرات في المجتمع الفلسطيني، بحيث يبدو حاضره بالغ الصعوبة ومستقبله شديد الغموض.
“فتح” هي منظّمة التحرير، أو كما وُصفت عن حقّ عمودها الفقري، و”فتح” هي السلطة الوطنية حتى لو رغب كثيرون من أهلها في فصلها عن أخطائها مع التنعّم بمزاياها.
و”فتح” هي المسؤولة عن كلّ المؤسّسات الرسمية في الحياة السياسية الفلسطينية بإجمالها، فهي رئيسة المجلسين الوطني والمركزي، ورئيسة المنظّمة والدولة والسلطة، ورئيسة الحكومة، ورئيسة المجلس التشريعي قبل الجائحة التي ألمّت به وأسفرت أخيراً عن حلّه.
وحين تكون مسؤولة بالفعل عن كلّ ذلك فبأيّ مسوّغ تُعفي نفسها من مسؤولية إخراج نفسها وشعبها ومؤسّساتها من الحالة الكارثية التي آلت إليها؟ صحيح أنّ المأزق الفلسطيني ليس نتاجاً فتحاويّاً منفرداً، بل هو نتيجة تضافر قوىً ومؤثّرات عديدة ذات أجندات متباينة، أوّلها الاحتلال، وليس آخرها كلّ من له مرقد عنزة في البيت الفلسطيني الصالح للاستثمار. غير أنّ مسؤولية الخروج من هذه الحالة تقع على عاتق “فتح” أولاً ما دامت تحتلّ كلّ هذه المواقع وتقدِّم نفسها على أنّها مؤسّسة المشروع الوطني وقائدة كفاحه حتّى الحرية والتحرير.
“فتح” كنز تاريخي ووطني وقومي وثوري وتحرّري. بهذه الصفات مجتمعة وما حملته من مسؤوليّات وأدّته من مهمّات دخلت التاريخ وفرضت مشروعها على السياسة والجغرافيا. صدّقها الناس حين قاتلت بكفاءة عالية، وصدّقوها حين فاوضت، واعتنقوا وعدها حتى لو كان ملتبساً كما حدث في مدريد ثمّ أوسلو فيما بعد. لم يتخلَّ الناس عنها، وحتى الفصائل التي بدت كما لو أنّها منافسة قالت على لسان جورج حبش عميدها الكبير في خطابه لـ”فتح” وقائدها ياسر عرفات: “نختلف معك ولا نختلف عليك”. فكان هذا بمنزلة تتويج ثمين للحركة الرائدة وطنياً وتزكية لها إقليمياً وعالمياً.
“فتح” ووقائع اللحظة السياسية
كان ذلك في الماضي. أمّا في الحاضر وأمام الذي يجري، فينبغي أن تتوقّف “فتح” مليّاً الآن وليس غداً أمام حالتها الراهنة، ليس من أجل التكيّف معها، وإنّما من أجل الخروج منها، وليس بالبحث عن خطط واصطفافات في صراعها الداخلي المرير، وإنّما من أجل إنجاز وحدة داخلية فيها أوّلاً، ثمّ في الوطن تالياً، وينبغي على “فتح” أن تدرك أنّ الزمن غيّر الواقع الفلسطيني والعربي والدولي، فما كان أيّام صفّق العالم وقوفاً لعرفات وهو يلقي خطاب فلسطين التاريخي أمام الجمعية العامّة للأمم المتحدة، ذلك الخطاب الذي دخل التاريخ بعبارته الخالدة “لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي”، ذلك العام بما له أكثر مما عليه، لم يعد قائماً الآن، لا فلسطينياً حيث الانقسام بلغ حدّ الانفصال، ولا عربياً حيث التطبيع المباشر والعلنيّ وغير المباشر والسرّيّ، ولا من حيث المجتمع الدولي الذي شتّتته الحروب والنزاعات والأوبئة، وآخرها الحرب الكونية المنطلقة من البؤرة الروسية ـ الأوكرانية.
هذا هو عالم اليوم الذي تجاهد فيه القضية الفلسطينية بصعوبة بالغة كي تُذكَر أو يجري تداولها بشكل أو بآخر في المحافل على مختلف أنواعها.
ألا يتطلّب هذا الوضع الفلسطيني والعربي والدولي عملاً جدّيّاً وفعّالاً من قبل “فتح” أساساً لمواجهة هذه التطوّرات الانقلابية؟ ألا يتطلّب هذا الوضع وقف العبث الذي عنوانه “فتح” الطاردة والمطرودة والغافلة؟
الوضع لم يصل بعد إلى حدّ المستحيل أو الميؤوس منه، إلا أنّه سيصل حتماً إلى ما هو أفدح من ذلك لو ظلّ الحال على ما هو عليه الآن. فالتدهور إمّا أن يوقَف عند نقطة معيّنة تعد بإمكانيّة النهوض، وإمّا أن يتواصل إلى ما لا نهاية.
الحريصون على “فتح”، وهم كثر في كلّ زمان ومكان، يتساءلون بحرقة ومرارة: ما الذي يمنع من إعادة وحدة “فتح” الداخلية من دون مواصلة الانقسام البائس بين طاردين ومطرودين؟ ما الذي يمنع استعادة “فتح” لعلاقاتها القديمة والعميقة والواسعة مع الشعب الفلسطيني أينما وجد، إذ لا معنى لهذه الحركة العظيمة من دون عمقها الشعبي، ذلك أنّ “فتح” هي الحركة الثورية التي يبلغ أنصارها مئات الآلاف زائد عدد أعضائها. ثمّ ما الذي يمنع من أن تعود “فتح” إلى ديمقراطية صناديق الاقتراع في داخلها وفي الوطن، بعد مرحلة ديمقراطية البنادق التي حمتها زمن المنفى؟
تتحوّل الديمقراطية إلى عكسها حين تكون انتقائية وموسمية، والديمقراطية لا جدوى منها إن لم تبدأ من “فتح”، ثمّ تمتدّ لتشمل المجتمع كلّه داخل الوطن وخارجه.
Comments are closed.