بقلم: فيتالي نعومكين
رئيس «معهد الاستشراق» التابع لأكاديمية العلوم الروسية/ موسكو
إن الكوارث العالمية في أيامنا هذه مأساوية، لدرجة تبدو فيها وكأنها باتت تغطي أحداث السنوات الماضية. إلا أنني أنتمي إلى تلك الفئة من المحللين ممن ينطلقون من أطروحة الدور المتنامي للذاكرة التاريخية والتاريخ بشكل عام، الذي تدور حول تفسيره اليوم معارك بحد ذاتها. لقد أصبحت الحرب على الذاكرة وتدمير النصب التذكارية من علامات العصر لعدد من الدول، بما في ذلك تلك التي تدعي الانتماء إلى المعسكر «المتحضر» والديمقراطي.
لكننا لن نتحدث هنا عما هو محزن للغاية. أريد أن أذكر فقط ببعض التواريخ التي لا تنسى. لقد مرت في هذا العام الذكرى الـ55 لحرب يونيو (حزيران) في الشرق العربي، التي سُجلت في التاريخ العربي تحت مسمى «النكسة». فأين هي الدولة الفلسطينية المستقلة التي وعد بها المجتمع الدولي من خلال مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة؟ ألا نخجل جميعنا أن نرى اليوم الانتهاك المستمر للحقوق الوطنية للفلسطينيين، واحتلال أراضيهم، وتوسيع المستوطنات، والحصار اللاإنساني لغزة؟ أنا شخصياً أشعر بالخجل.
قبل 65 عاماً تقريباً، في عام 1958، حدثت سلسلة من التغييرات الدراماتيكية في الشرق الأوسط، كان لها تأثير كبير على التطور اللاحق لدول المنطقة. وهي، على وجه الخصوص، الوحدة بين مصر وسوريا، التي رغم أنها لم تدم طويلاً، لكنها كانت مهمة، والثورة المناهضة للملكية في العراق (يبدو أن الإمكانات الثورية لهذا البلد الغني بالموارد الطبيعية والبشرية بعيدة عن أن تُستنفد)، وتدخلات الأميركيين والبريطانيين في لبنان والأردن، وغير ذلك.
لكي نكون منصفين، لا بد من ذكر شيء إيجابي عن دور الأمم المتحدة. فبعد بضعة أشهر، في مايو (أيار) 2023، سيصادف مرور 75 عاماً على إنشاء «هيئة الأمم المتحدة لمراقبة الهدنة في فلسطين» (UNTSO) في الشرق الأوسط، التي بدأت في تنفيذ أول عملية على الإطلاق لحفظ السلام أنشأتها الأمم المتحدة. كانت أهداف المراقبين العسكريين التابعين لهيئة الأمم المتحدة لمراقبة الهدنة (UNTSO) مراقبة وقف إطلاق النار، والإشراف على الامتثال لاتفاقيات الهدنة، ومنع تصعيد الحوادث المنفصلة، ومساعدة عمليات حفظ السلام الأخرى التابعة للأمم المتحدة في المنطقة في تنفيذ مهام كل منها. لقد تم نشر المراقبين العسكريين التابعين لهيئة الأمم المتحدة لمراقبة الهدنة في فلسطين بعد حصولهم على إذن من مجلس الأمن لمهمتهم. وفي عام 1949، تم إنشاء لجنتي هدنة مختلطتين: مصرية – إسرائيلية، وسورية – إسرائيلية.
ولمدة ربع قرن، لم يكن العسكريون السوفيات/ الروس ممثلين في المهمة. فقط، في نوفمبر (تشرين الثاني) 1973، تم إدخال قوات حفظ السلام من الاتحاد السوفياتي إلى هيئة الأمم المتحدة لمراقبة الهدنة. وستحل الذكرى الخمسون لهذا الحدث قريباً. ومن إجمالي 300 ضابط من 17 دولة، كان هناك 36 ضابطاً سوفياتياً (18 في منطقة قناة السويس و18 في مرتفعات الجولان). واستطاع العسكريون الروس الخدمة في اللجنتين المختلطتين المذكورتين أعلاه، لكن وجودهما لم يدم طويلاً، ولم تأتِ هاتان اللجنتان بأي شيء يذكر.
لكن، كما هو معروف، حتى قبل ذلك، في تشرين الثاني 1956، توسع حجم أنشطة قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. فقد تم نشر قوة الطوارئ الأولى التابعة للأمم المتحدة (UNEF – I) في منطقة قناة السويس، وكلفت تهيئة الظروف لحل النزاع في هذه المنطقة وضمان انسحاب القوات البريطانية والفرنسية والإسرائيلية منها. وفي عام 1988، حصلت قوات الأمم المتحدة على جائزة نوبل للسلام تقديراً للشجاعة والتفاني اللذين أبدتهما خلال إنجازها لعمليات حفظ السلام. ولدى أبناء بلدي من الذين خدموا في قوة الأمم المتحدة في الشرق الأوسط العديد من الذكريات. وفي الآونة الأخيرة، أحد المحاربين القدامى، المقدم المتقاعد أناتولي إيزينكو، تذكر قائلاً: «ترتب عليّ أن أكون في الخنادق، بين الكثبان الرملية، وأن أعيش في الخيام، وأقوم بدوريات بالطائرة والمروحية، وأرسم خط الفصل على دبابة، وأبحث عن رفات القتلى على دبابة، وأحصي عدد المدافع والدبابات والعسكريين والجمال، وأتردد على المكاتب الدبلوماسية وأزور مدينة القدس».
أما إذا نظرنا أبعد من ذلك، في أعماق القرون، فسنلاحظ أنه منذ عدة أيام قليلة مضت، مرت 210 سنوات على أكثر المعارك دموية في القرن التاسع عشر، في قرية بورودينو بالقرب من موسكو، حيث اشتبك الجيشان، الفرنسي بقيادة نابليون بونابرت والروسي بقيادة المارشال ميخائيل كوتوزوف. وتسمى حرب 1812 ضد نابليون في روسيا بـالحرب «الوطنية». واكتسب كوتوزوف شهرة في تاريخ العالم من خلال مناورة عسكرية تكتيكية فريدة، بعد أن استدرج الفرنسيين إلى فخ في صقيع شتوي شديد، إذ سلم موسكو إليهم لفترة، بعد أن سحب القوات منها. وأحرق الفرنسيون الجياع والمتجمدون من البرد من الذين نجوا حينها الجزء الرئيسي من المباني الخشبية قبل أن يفروا من موسكو، وقام الجنود الروس والمقاتلون من الفلاحين باللحاق بهم والقضاء عليهم على طول الطريق (لقد كان الصقيع حليفاً لروسيا أيضاً أثناء حرب وطنية أخرى هي الحرب ضد النازيين في عام 1941 – 1945). وسرعان ما بدأت بعدها حملة الجيش الروسي إلى الخارج، التي كانت الأخيرة للمارشال ميخائيل كوتوزوف.
بالمناسبة، كان هناك، كجزء من جيش نابليون في روسيا، سرب من سلاح الفرسان المملوكي الذي تشكل في مصر قبل أن يغادرها نابليون في عام 1799 ويتبعه إلى فرنسا. لم يكن المماليك محظوظين، فقد تم القضاء عليهم جميعاً في روسيا، من دون استثناء تقريباً.
ترتبط العديد من الحقائق غير العادية بتلك الحرب مع الفرنسيين. من المفارقات، أنه قبل خمس سنوات من حملة سطو نابليون على روسيا، منحه الإمبراطور ألكسندر الأول أعلى وسام في الإمبراطورية الروسية، وهو وسام القديس أندرو الأول. وكان السبب هو التصديق على اتفاقية تيلسيت للسلام في عام 1807، وفي الوقت نفسه، حصل المنتصر لاحقاً على نابليون، المارشال ميخائيل كوتوزوف، على الوسام نفسه. غير أن الإمبراطور الروسي كان قد حرم، في عام 1816، نابليون، من هذا الوسام الرفيع، بعد أربع سنوات من حربه المخزية. تجدر الإشارة إلى أن الإمبراطوريتين الروسية والفرنسية حاولتا في مواجهتهما أن تحصلا على دعم المملكة البروسية، التي كانت تكتسب قوة في ذلك الوقت، وكان لكل من روسيا وفرنسا تأثير كبير عليها. فليس من قبيل المصادفة أن كلاً من كوتوزوف وبونابرت حصلا أيضاً على نفس أعلى الأوسمة في بروسيا، وهما وساما «النسر الأسود» و«النسر الأحمر».
العلاقة بين حرب أسلافنا والشرق الأوسط مهمة بالنسبة لي ولزملائي في معهد الدراسات الشرقية التابع لأكاديمية العلوم الروسية، الذي تشرفت بترؤسه منذ خمسة عشر سنة مضت. إذ إن ألكسندر الأول هو من أنشا هذا المعهد، ولا يزال مقر المعهد حتى يومنا هذا في مباني موسكو ما قبل نابليون التي نجت من الحريق: عزبة ماسلوف أوبولينسكوي.
ومن بين المارشالات لدى نابليون، الذين حاربوا أولاً في مصر ثم في موسكو، كان هناك آخرون حصلوا على وسام القديس أندرو الأول، وهم هؤلاء المشاركون في معركة بورودينو: المارشال مورات، دافوت، بيرتييه وبيسير. يا له من تشابك في تاريخ مصير شعوب روسيا والشرق الأوسط وأوروبا الغربية.
يتذكر زملائي من علماء المصريات دور توماس ألكسندر دوما، جد الكاتب الفرنسي الشهير ألكسندر دوما، الذي قاد سلاح الفرسان في حملة بونابرت الاستكشافية المصرية، ثم اختلف معه بشأن الحملة، وغادر مصر، بينما لا تزال روايات حفيده تُقرأ في مصر وروسيا حتى الآن.
Comments are closed.