نحو مؤتمر إنقاذ ومهام إعادة بناء المشروع الوطني

بقلم: الدكتور عـمـر رحـال
لعل مصطلح المشروع الوطني الفلسطيني هو المصطلح الأكثر استخداماً في الحالة الفلسطينية والأكثر ضبابية في الوقت نفسه ، أبدأ بالسؤال التالي الذي يراودنا يومياً وهو لماذا لم تنتصر الثورة الفلسطينية أسوة بالثورات الأخرى سواء تلك التي استخدمت المقاومة المسلحة، أو المقاومة الشعبية، أو المقاومة السلمية، أو التفاوض ، أو تلك التي جمعت بين مختلف أشكال وأساليب المقاومة ؟ ليس من المبالغة القول أن التضحيات التي قدمها الشعب الفلسطيني منذ أول مستوطنة صهيونية وضعت على أرضنا في الملبس (بتاح تكفا) أي مفتاح الأمل بالعبرية عام 1878 ، وحتى اللحظة ، كفيلة بإنجاز المشروع الوطني وبتحرير فلسطين وإقامة دولة متقدمة بكل المقاييس ، وعلى الرغم من كل التضحيات هل أفشلنا المشروع الصهيوني ، وهل نجح المشروع الوطني الفلسطيني ؟ المتتبع للحالة الفلسطينية لا يساوره الشك أننا فشلنا في تحقيق أهدافنا الوطنية ، فما زالت أرضنا محتلة منذ العام 1948 وتتزايد يومياً المساحات التي يلتهمها المشروع الاستعماري الصهيوني للدرجة التي بقي فيها للفلسطيني جيوب معزولة هنا وهناك وحتى هذه الجيوب ينهشها الاستيطان وسياسات الهدم والتهجير والترحيل القسري اليومية .
وعلى الرغم من أن المشروع الوطني الفلسطيني يقوم على إجماع مختلف الفصائل والأحزاب والقوى الفلسطينية الوطنية والإسلامية ، وركائزه الأساسية ، وهي الأهداف النهائية للنضال الوطني ، ووسائل وأفعال النضال الوطني ، وشرعية الممثل الوطني ، وخصوصيات الوضع الفلسطيني ، وعلى الرغم من أن المشروع الوطني في بدايته كان يهدف إلى هزيمة المشروع الصهيوني ، ولكن اليوم وبعد عديد من التطورات ، أضحى المشروع الوطني ملتبساً ، وأخذت ركائز الإجماع تتزعزع وتنهار الواحدة تلو الأخرى.
كما أن نكباتنا وهزائمنا وكبواتنا ، وأزماتنا ما زالت مستمرة دون توقف ، الحالة الفلسطينية الراهنة معقدة ، حالة من التشظي والانقسام ، والتيه وعدم اليقين والتخبط ، لا نعرف على وجه التحديد وجهتنا ، نسير بخطى ثابتة خلف السراب والوهم ، نجرب المجرب ، ونلدغ من الجحر مرات ومرات ، مفاوضات عبثية ، ندور في حلقة مفرغة ، نحن “الضحية” لكن العالم يحملنا مسؤولية ما يجري ، وكأننا نحن الذين نحتل أرض إسرائيل ، فلا نحسن إدارة أوضاعنا .
إستراتجية العمل الوطني ، والمشروع الوطني ، والشراكة السياسية ، وغيرها من المصطلحات التي يتم تداولها في الخطاب السياسي والإعلامي سواء من قبل الطبقة السياسية ، أو من خلال النخبة ، وإن كان هناك حد أدنى من الاتفاق على ماهيتها ، إلا أنه لا يوجد إجماع بين الفصائل الفلسطينية سواء المنطوية تحت إطار منظمة التحرير الفلسطينية أو خارجها على الأدوات والآليات لتحقيق ذلك ، بل لا يوجد توافق واتفاق تام على ماهية المشروع الوطني ونطاقه . والأخطر أنه لا يوجد وثيقة سياسية فلسطينية تحظى بإجماع وطني فلسطيني تشكل مرجعية ، سواء ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية ،أو وثيقة الاستقلال ، أو ميثاق حماس ،أو حتى القانون الأساسي الفلسطيني” الدستور المؤقت” ، الأمر الذي أدى بالفصائل أن تختلف على طبيعة الثوابت والأهداف ، بل وعلى الطرق والوسائل للوصول للأهداف ولانجاز المشروع الوطني.
الفرصة الوحيدة في هذا المشهد العبثي الذي نعيشه هي أن تقوم الفصائل الفلسطينية ومعها الشخصيات الوطنية ، والأكاديميين، ومؤسسات المجتمع المدني ، والقطاع الخاص بما تملكه من أدوات وإرادة لإعادة بناء المشروع الوطني على قاعدة الشراكة الوطنية، وهذا يتطلب مبادرة عملية لطرح رؤية وطنية جامعة ، صحيح أن لكل فصيل فلسطيني نظام أو ميثاق ،ينظم حياته الداخلية ، ولكن عدم وجود وثيقة سياسية وطنية يجمع عليها الكل الفلسطيني ، يعني أن الجميع سيبقى في حاله من التيه وعدم اليقين ، والسير نحو المجهول ، فكل حركات التحرر استندت على وثيقة أو على برنامج أو حتى على بيان في نضالها ضد المستعمر . أما الحالة الفلسطينية الراهنة فهي حالة فريدة ، تستدعي من الجميع الاتفاق على برنامج إجماع وطني ، للخلاص من الاحتلال .
اليوم أكثر من أي وقت مضى نحن بحاجة إلى تعزيز الوحدة الوطنية على أساس الشراكة السياسية الكاملة ، ذلك يتطلب في البداية عقد مؤتمر إنقاذ وطني تشارك به كل القوى السياسية والمجتمعية الفلسطينية ، وجميع القطاعات والفئات بما فيها الشباب والمرأة وذوي الإعاقة ، ومؤسسات المجتمع المدني وفي مقدمتها الجامعات والنقابات المهنية والعمالية والقطاع الخاص والحركات الشبابية ، والحقل الثقافي والإعلامي ، وخبراء دستوريين مع مراعاة تمثيل الفلسطينيين في كافة أماكن تواجدهم ، للخروج بإستراتيجية وطنية موحدة ، تحدد معالم مرحلة الخلاص الوطني ، وعملية التحرر، مقرونة بعملية التحول الديمقراطي، هذا إلى جانب وضع الأسس والمرتكزات لمؤسسات الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية والعسكرية بعد التحرير ، وهوية الدولة ونظامها السياسي ، والاتفاق على مبادئ وأسس العقد الاجتماعي الذي نريد في إطار الطابع المدني .
إحدى أهم مخرجات مؤتمر الإنقاذ الوطني هو إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية والاتفاق على البرنامج الوطني ، وإعادة بناء مؤسسات وأطر منظمة التحرير الفلسطينية على أسس وحدوية ، فالمشروع الوطني التحرري ، لا يمكن إنجازه واستعادته في ظل حالة الانقسام والتشظي والاصطفاف السياسي والمناطقي ، وهي الخطوة الأولى في اتجاه الانعتاق من الاحتلال ، أما الخطوة الثانية فهي الاتفاق على البرنامج السياسي والشراكة السياسية لمختلف القوى والفصائل الفلسطينية ، وذلك من خلال إستراتيجية وطنية يجمع عليها الكل الفلسطيني، وتعزيز صمود المواطنين الفلسطينيين في مختلف الأراضي الفلسطينية ، لا سيما في القرى والتجمعات المحاذية للمستوطنات وجدار الفصل العنصري ،أما الخطوة الثالثة هي البناء والمراكمة على صمود فصائل المقاومة وحضورها في الميدان .
أما المخرج الثاني لمؤتمر الإنقاذ الوطني هو التحلل من كل الاتفاقيات السياسية والاقتصادية والأمنية مع دولة الاحتلال ، فقد أدى التوقيع على اتفاق “أوسلو” إلى تدمير الترابط والتنسيق العربي ، كما أنه فتح الطريق للحلول الثنائية المنفردة وإطلاق العنان لعملية التطبيع بين إسرائيل والعديد من الدول العربية وإتاحة إمكانية تجاوز الفلسطينيين ومصالحهم في الاتفاقيات الثنائية ، إذ بات السؤال الرسمي العربي ما المانع الذي يقف عائقاً أمام التطبيع طالما أن أصحاب القضية أنفسهم ذهبوا للتسوية ؟ وقد كان لهذا التأثير السلبي لاتفاقيات أوسلو على الذهنية الرسمية العربية والعبء الذي أزاحه عن كاهل الأنظمة عند التطبيع نتيجة كارثية بكل المقاييس . مما أدى إلى تعميق حالة التمزق في الصف العربي، أما على الصعيد الإسرائيلي شكل اتفاق “أوسلو” الركيزة الأساسية لبناء نظام إقليمي شرق أوسطي تلعب فيه إسرائيل دور القوة الإقليمية الكبرى المهيمنة على المنطقة. أما فلسطينياً فلم ينجح الاتفاق في تلبية الحد الأدنى من حقوق وتطلعات الشعب الفلسطيني. بل قاد إلى مزيدٍ من التردي في أكثر من مجال . فقد ترتب على الاتفاق تبديد وحدة الشعب الفلسطيني . بل أن الاتفاقيات الموقعة مع دولة الاحتلال منحتها مزيداً من آليات التحكم الاستعماري بمفاتيح السياسات الاقتصادية الفلسطينية التجارية والمالية والنقدية والعمالية ، الأمر الذي حرم الاقتصاد الفلسطيني من النمو والتنمية ، وأبقاه مقيداً وتابعاً للاقتصاد الإسرائيلي ، بل أن الاتفاقيات تُطيلُ من عُمّر الاحتلال ، الأمر الذي يحرم الفلسطينيين من حق تقرير مصيرهم ، في ظل عدم وجود إرادة سياسية للتحرر من هذه الاتفاقية .
أما المخرج الثالث فهو تسليم مفاتيح السلطة للأمم المتحدة وسحب الاعتراف من دولة الاحتلال ، ليدرك المجتمع الدولي عندها ، أن الفلسطينيين ليسوا وكلاء لأحد ، وأنهم لن يستمروا في إعفاء المجتمع الدولي من مسؤولياته تجاه الشعب الفلسطيني استناداً للقانون الدولي ولقرارات الأمم المتحدة . فهناك إدارة ظهر من قبل الولايات المتحدة والمجتمع الدولي لحقوق الشعب الفلسطيني وحقه في تقرير مصيره وإقامة دولته الفلسطينية المستقلة على ترابه الوطني وأقل ما يجب أن تقابل به هو إدارة ظهر فلسطينية مقابلة لكل الرؤى والبنى الوهمية حول التسوية والعملية التفاوضية والخروج من عقلية الانتظار الصامت .
اليوم نحن أمام مفترق طرق ، وقضيتنا الوطنية ومشروعنا الوطني على المحك ، بل في مهب الريح ، قيادة سياسية عاجزة ، ومنظمة تحرير مشلولة ، وأوضاع داخلية فلسطينية سيئة ، وسياسة إسرائيلية ممنهجة قوامها المصادرة والاستيطان والتهويد ، والحصار،والمجازر، والقتل، والاعتقالات، حرب على البشر والشجر والحجر، في ظل صمت دولي مريب. ببساطة شديدة الوقت ليس بصالحنا ، استخلاص الدروس والعبر وإعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني كمشروع تحرري يواجه واقعاً استعمارياً من خلال مؤتمر إنقاذ وطني يشارك فيه الجميع . فمعركة التحرر الوطني تحتاج إلى جبهة وطنية عريضة وبرنامج توافقي يلتزم به الجميع.
الفصائل الفلسطينية ، بل الكل الفلسطيني اليوم أمام مسؤولية تاريخية لإعادة الاعتبار للقضية الوطنية ، وأخذ زمام المبادرة والمبادأة ، إذ لا يكفي النقد أو تحميل المسؤولية للآخرين ، والمطلوب من الجميع طرح الرؤى والبدائل العملية، فحضور الفصائل ، ومؤسسات المجتمع المدني ، ومؤسسات التعليم العالي، والقطاع الخاص، والحركات الشبابية، والنقابات المهنية والعمالية، والمثقفين ، … الخ في المشهد الوطني وامتدادها الجماهيري ، وقبولها المجتمعي ، وقوتها العسكرية والسياسية ، وعلاقاتها العربية والإقليمية والدولية تتيح لها تصدر المشهد وقيادته ، وإعادة بناء وإحياء المشروع الوطني على أسس كفاحية وسياسية ، تأخذ المتغيرات الإقليمية والدولية بعين الاعتبار ، وبخطاب جديد ، يستند على قرارات الشرعية الدولية ، وعلى حق الشعوب بتقرير مصيرها ، وعلى الحضور التاريخي للشعب الفلسطيني على أرضه دون انقطاع . وعلى قوة المقاومة وحضورها ، واستخدام أوراق القوة في المواقيت المناسبة ، والصمود في وجه الضغوط ، وبتحديد معسكر الأعداء والأصدقاء . كلها كفيلة في تحقيق الأهداف الوطنية والخلاص من الاحتلال . بالعودة إلى شعار التحرير خلال المرحلة القادمة ، وليس شعار إقامة الدولة ، فسقف التحرير أعلى بكثير من سقف الدولة .

Comments are closed.