بقلم: الأسير أسامه عودة
توصي (الهلخاه اليهودية) أي الشريعة اليهودية، في أحد تفسيراتها للاستيطان في القدس نصاً، وتقول (يَحْرُم على غير اليهود أن يعيشوا في القدس، ويمنع إعطاء شخص غريب مكاناً في القدس، وينبغي تطبيق ذلك، حيث تكون لإسرائيل يد قوية، واليوم رغم أنه ليس بالإمكان طردهم بالقوة، فلا يعني ذلك تشجيعهم على العيش فيها). لا يوجد أوضح من هذا النص الديني الداعي للاستعمار واستيطان القدس وإنفاذ التطهير العرقي فيها بطرد أهلها منها، ولهذا الغرض نذرت نفسها مجموعات وحركات دينية قومية متطرفة، عملت بتنسيق كامل ودعم سخي، مادي ومعنوي وعسكري، من قبل حكومات الاحتلال، ومن أبرز هذه المجموعات حركة (غوش إيمونيم) أي جبهة المؤمنين التي تقود مشروع استيطان ما تبقى من فلسطين التاريخية وطرد أهلها منها وفقاً لشعارها الأبرز على لسان زعيمها الأول الحاخام (تسيفيكول).
قبل احتلال العام 1967، قيل إن (التوراة والحرب والاستيطان ثلاثة أشياء في واحد، ونحن سعداء بالسلطة التي أعطيت لنا في كل منها). في هذا الصدد يؤكد الحاخام شلومو أفنر، وهو الآخر من قيادات هذه الحركة البارزين (لقد أُمِرنا من قِبَل إله إسرائيل وخالق العالم أن نمتلك كافة الأراضي بحدودها المقدسة، وأن نفعل ذلك من خلال الحرب والدفاع وحتى من خلال حروب التحرير).
وفي انسجام كبير وواضح ما بين المتدينين ومن يحملون المشروع الصهيوني على هذه الوصايا، قام المشروع الاستيطاني الاستعماري الصهيوني في كافة الأراضي المحتلة، وعلى رأسها القدس، وفقاً لمخططات مدروسة ومسبقة وبشكل لا يدع مجال للشك عندما أوضح ذلك (ليفي أشكول) رئيس وزراء إسرائيل في شهر نيسان من العام 1960، وطالب بإعطاء إسرائيل طريقاً إلى حائط المبكى، أي (حائط البراق)، وقال بأن هذا الطلب أبديّ، وفي نفس العام كتب مقالةً في صحيفة معاريف الإسرائيلية انتهى فيها بالكلمات التالية: (حائط المبكى يبكي اليوم على أبناء إسرائيل غير الموجودين بقربه، والأماكن المقدسة لليهود في البلدة القديمة حيث ثمة أماكن مسلوبة روحك تذهب إليها، ولا تستطيع أقدامك أن تطأها).
ومنذ ذلك الوقت وحتى اليوم وإسرائيل تضع القدس في دائرة الاستهداف، بحيث تجمع في سلوكها الاستعماري ما بين شرعية دينية لاستيطانها وشرعية صهيونية استعمارية تهدف من خلالها للإجهاز على مدينة القدس وتصفية قدسيتها الإسلامية والمسيحية وتحويلها لقدسية يهودية خاضعة لتعاليم توراتية لآليات ومشاريع صهيونية نراها اليوم، من طرد وقتل وخراب وهدم وإثقال على مواطني القدس خاصةً وفلسطين عامةً، الأمر الذي يؤكد أن دولة إسرائيل تنمو وتتطور في حدود القالب الذي صنعته لها حاضنتها الأولى التوراة، ومن خلفها حركة صهيونية استعمارية قامت واستمرت وارتكزت على ثلاث ركائز أساسية لاستكمال مشروعها، وهي الاستيطان والهجرة والقوة العسكرية. وعلى الرغم من ذلك، فالقدس التي تهفو إليها القلوب والأنفس تطلعاً لليوم الذي تتحرر فيه من أسرها، تعيش أبشع هجمة استعمارية في محاولات محو وطمس لصورتها كرمز للسلام المنتظر كسابق عهدها، ولإخفاء معالمها ومحاسنها الإنسانية الدينية على مدار قرون خلت، حار متأملها فيها فكانت وما زالت وستبقى الحبل السُّري ما بين السماء والأرض، وذروة التاج، ومجمع الأنبياء.
هي نافذة محمد عليه الصلاة والسلام إلى السماء، ولأجلها سيبقى العدل والحقيقة على هذه الأرض بأيدي من يواجه المشاريع الاستيطانية، سيفاً مشرعاً يحتاج على الدوام لهمم الرجال الذين يضعون مبادئهم العليا فوق كل شيء، ويقدمون تضحياتهم من أجلها لتقدَّر هذه التضحية بمقدار ما خسروا فيها من دنياهم وما ربح فيها عدوهم منها.
لا الاستيطان ولا الحرب ولا التوراة، وكل ما نتج عنها من عنف ومشاريع في سبيل تحقيق غايتهم بالقدس، ستؤسس لرواية تنفي حقيقة القدس الإسلامية والمسيحية. وما العنف المستخدم لفرض سيادتهم وسيطرتهم عليها وعلى كامل تراب فلسطين إلا أساساً لمزيد من القتل والخراب تعميقاً للفرقة وزيادة إشعال للصراع الذي سيعزل هذا المشروع الصهيوني عن إنسانية العالم الحر وعن روحه وقواه الصادقة، على الرغم من استهتارهم بكل هذه القيم الإنسانية والشرائع السماوية والأرضية، الأمر الذي يؤكِّد أن كل ذي عقل وضمير وتسري في إنسانيته الحياة لا يجهل الحقيقة الواحدة والوحيدة في هذا الزمان وبالذات التي تقول بأن الحل السياسي لهذا الصراع وعلى هذه الأرض قائم على حالتين لا ثالث لهما: إما الفصل أو القطيعة مع هؤلاء، والتي منها يقول الفصل بين دولتين أو قوميتين يهودية وفلسطينية، وهذا لن يتحقق إلا من خلال تصفية المشروع الاستيطاني الاستعماري في المناطق المحتلة في العام 1967، وعلى رأسها القدس، أو بالإلغاء الكامل للفصل ومنح المواطنة والحقوق كافة للفلسطينيين في دولة تجمعهم ثنائية أو فوق ثنائية القومية بين البحر والأردن.
وعليه، فإن حجم البعد الاستيطاني للديانة والثقافة وسياسة الصهيونية الإسرائيلية القائمة اليوم بحاجة لوعي وإدراك كبير منا نحن الفلسطينيين، بحقيقة وماهية هذا الفكر. وبالتالي سلوك دولة الاحتلال في سبيل تحقيقه يدفعنا باتجاه مراحل ستصل بنا لنهاية المطاف لتحقيق تطهير عرقي في القدس أولاً، وسيتمدد بأي منطقة يتمكن الاحتلال من تحقيقه فيها، ما يؤكد أن معالم وتجلي الأبرتهايد وممارساته هذه الأيام ما هي إلا بداية للوصول للهدف المنشود، وهو التطهير العرقي الصامد الذي يستهدف القدس، مستغلين به ظلمة هذا العالم. ولهذا فنحن مطالبون بزيادة لُحمتنا الداخلية وتمسكنا بمشروعناالمقاوم الواعي لهذه المخاطر التي تُحاك لنا، والتي إن أبقينا على إغفالها ستجعل حقنا في إقامة دولة مستقلة وسيادية كحق لنا في مهب الريح، وأبعد من ذلك فلن يكون لنا موطئ قدم في مجال وفضاء ومخططات دولة الاحتلال وحركاتها المتطرفة قومية كانت أو دينية، صهيونية أو علمانية، فالوحدة الوطنية في إطار جبهة عريضة وطنية بأهداف موحدة والمقاومة الشعبية والتمسك بالشرعية الدولية التي تلتزم بحقنا في دولة على جزء من وطننا المسلوب، وخلق استراتيجيات عمل تؤكد على هذه الثوابت سيدفع باتجاه الانتصار الذي سيعيد قدسنا وأرضنا وحقنا الأبدي فيها.
Comments are closed.