د. عبد الولي الشميري
العالم الغني اليوم يناضل باستماتة مفرطة لمنع تملك أسلحة الدمار الشامل، والتكنولوجيا النووية والأسلحة الكيماوية، ويستميت في القضاء على التطرف والتنظيمات الإسلامية المتشددة، وينفق كل عام ما يقارب ألف مليار دولار لمكافحة هذه الظاهرة المؤدلجة!!. وفي الخفاء وبعيداً عن عيون الإعلام تقام ميادين استخبارية وتدريبات، وآلاف من المؤتمرات السرية، وآلاف من الندوات التدريبة على الاستخبارات الموجهة، وكل يوم وفي كثير من البلدان تنشأ أجهزة مركزية وفرعية لهذا الغرض، وتولد وزارات وهيئات، ناهيك عن مبتكرات علمية حديثة من وسائل الفناء، وتكنولوجيا التدمير، وطائرات دون طيار.
إن الإرهاب والرعب والخوف على الحياة وعلى المدنية، وعلى الحضارة، وعلى سلامة المسافرين، وعلى الأمن الشامل للمجتمع وللدول أمر ضروري وحتمي؛ لكن تلك الظاهرة المميته للإرهاب لم تجد بعد دراسة متأنية، لمعالجتها والقضاء الحقيقي على أسبابها، ولم يقف المنصفون من الباحثين الأمنيين على معرفة الفيروسين الذين يقفوا وراءها، ولا لمعرفة الأسباب التي قذفت بفلذات أكباد الشعوب الفقيرة المظلومة؛ للتفاني في هذا المضمار الخطير، فكل الأبحاث وكل الدراسات تتحدث عن طرق مواجهتها بالقوة، وبالاختراقات التجسسية، وبالطائرات من دون طيار، بينما لو كان العالم يرى بعيون الصواب لاكتشف أن من أهم الأسباب التي جعلت الشباب الذين يتدافعون للموت، إنما هما: الظلم، والجوع، فمن يعش مغموراً بشعور يائس من زوال الظلم، ويائس من زوال الفقر فبلا شك إنه يستهون قيمة الحياة، ويسترخص الموت، وإلا فمن أجل ماذا سيحرص على الدنيا، وعلى البقاء في حياة لا يحلم فيها إلا : بالخوف، وإلا بالجوع، وإلا بهما معاً!!.
إن الخالق العظيم حين امتن على الكافرين المكذبين برسالة نبيه محمد عليه الصلاة والسلام بأنه: (أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف) يريد أن يعلمنا سبحانه بأن على كل حاكم يريد من المحكومين الاعتراف بسيادته، وبأنه عظيم يستحق الطاعة؛ فعليه أن يوفر لهم أولاً: الأمن من الجوع، والأمن من الخوف. فمن لم يستطع القيام بذلك فليس بحاكم وليس من حقه أن يمتن أي نعمة أو أي منجزات قدمها لقومه أو لشعبه، ولقد كان الغرب مدركاً أهمية الاستقرار الأمني والاستقرار الغذائي لشعوبهم؛ فاعتبروهما أهم المهمات ومن صميم الأمن القومي، وجاءت إسرائيل بنفس الفكر ففرغت كل مقدرات الدولة من أجل هاتين القضيتين للإسرائليين، بينما جيرانها في غابة من الظلم والفقر العربي، وفي حين يريد المستبد العربي من الفقراء الجائعين في شعبه سمعاً وطاعة بقوة نصوص القرآن، وبقوة القانون، بينما يكون الحاكم المستبد خارجاً عن سيادة القرآن وخارجاً عن سيادة القانون.
إن الحاكم الذي تحرر من الفكر الاستبدادي عندما يفكر لا يفكر لنفسه ولا لعائلته، ولا لطائفته، ولا لحزبه، ولكن لأمته وللأجيال القادمة من بعده، ونرى أن دول الغرب الرأسمالية تضمن أمن العيش، وأمن السلامة، ليس لكل مواطنيها فحسب، ولكن لكل المقيمين على أراضيها، ومن أجل ذلكما الأمنين نرى المواطنين العرب يغامرون في طلب الهجرة، فيموتون غرقاً في البحار في رحلات تسلل غير قانونية إلى أوروبا، ولو لم يكن البحث عن الأمن والفرار من الجوع لما غامر أحد بحياته ولما فارق أحبابه ووطنه، فرحلوا ولسان حالهم:
ارحل بنفسك من أرض تضام بها
ولا تكن من فراق الأهل في حرقِ
فالعنبرُ الخامُ روثٌ في أماكنه
وفي التغربِ محمولٌ على العنقِ
والكحل نوع من الأحجار تنظره
في أرضه وهو مرمي على الطرقِ
لما تغرب حاز الفضل أجمعه
فصار يُحمل بين الجفن والحدقِ
فالجوع، والخوف لا يلدان حضارة، ولا مدنية، ولا ثقافة، ولا عدلاً، ولا تقدماً، ولا قيماً. ولذلك نرى معظم الحروب في الدول الأكثر فقراً، ونرى الرذائل المادية ضد الإنسانية في الشعوب الأكثرفقراً، والسلاح ينتشر بشكل أقوى في المجتمعات الأكثر فقراً؛ لأنهم يرون في تجارة السلاح وسيلة مهمة تساعد الجائعين على قطع الطرق، ولإشباع حقدهم في تخويف الأغنياء، وتدفع إلى التمرد ضد الدولة، وتشيع الرعب في صدور من ليس لهم سلاح، فيسهل ابتزازهم والسطو على ممتلكاتهم، وتمثل ظاهرة الفقر والظلم رجعة إلى العصور الجاهلية.
وانظروا معي من يقف وراء القرصنة التي نراها اليوم في خليج عدن والمحيط الهندي سوى الفقر، سوى الجوع المنتشر في الصومال، ولو أدرك المجتمع الدولي حق الإدراك بعيون الرحمة والفكر الصحيح لعمل على إطعام الصوماليين من الجوع، بنصف تكاليف حملة الأساطيل البحرية، والبارجات العملاقة التي تعسكر في البحر منذ سنوات لحماية السفن العابرة من قرصنة الجائعين، ولو حدث ذلك لاكتفى الصوماليون الجائعون بالطعام، ولم يغامروا بحيواتهم، في عباب المحيط الهندي، لكن الموت الذي لابد منه بسبب الجوع فرض عليهم مقاومة اليأس وقذف بهم للتقطع والقرصنة، ومن يعرف حقيقة ما يجري من الأوضاع القاهرة والمحن في مخيمات اللاجئين الصوماليين، وحالات الملايين على أرض الصومال لعذرهم. وصدق القول المأثور: (كاد الفقر أن يكون كفراً)، وخير صورة لقهر الفقر هو قول أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: (لو تمثل الفقر رجلاً لقلته)، وفي الدعاء النبوي الماثور:(اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر)؛ فالفقر شقيق الكفر، ولو عاد عدل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لأغلق عن القراصنة الصوماليين المحاكم التي تحاكمهم، ولأوقف النيابات التي يجب أن تدافع عنهم كجائعين، ولألزم القادرين من الدول الغنية بكفالتهم، وصدق رسول الله فيما رواه عن ربه سبحانه: (الخلق عيالي، وأحب عبادي إلي أرحمهم بعبادي،) أو كما قال. ولقد تحقق في أولئك المغلوبين الجائعين، المقهورين على أرضهم، والمقهورين في مخيمات اللاجئين، والمقهورين بالغرق في البحار قول شاعر النيل:.
ذقت طعم الأسى وكابدت عيشـاً
دون شربي قذاة شرب الحمــام
فتقلبت في الشقاء زمـــانــاً
وتنقلت في الخطوب الجســام
ومشى الهم ثاقباً في فــــؤادى
ومشى الحزن ناخراً في عظـامـى
فلهذا وقفت أستعطف النــــا
س على البائسين في كل عــام
لا شيء أشق على نفس الفقير من أن يرى نفسه جائعاً خائفاً يموت أطفاله ومن يعول بالمرض والجوع، ويرى جاره وأغنياء من أهل بلدته يموتون بالتخمة، ويمرضون بالسمنة، وهو يتلوى من الجوع، ويأوي إلى الأرصفة، ويمشي حافياً، يفترش الأرض ويلتحف السماء، نار القهر والغضب بين عينيه، ومن الذي يقبل على نفسه أو لولده من ذكر وأنثى أن يذهب للمساجد ليس للصلاة ولكن لسرقة أحذية المصلين؟ من الذي يقبل على ابنته بأن يبيعها طفلة باسم زواج سياحي، أو عرفي، لشيوخ مسنين لما في أيديهم من مال الله، أو أن تخرج طفلته باحثة عن لباسها، وطعامها على وهم الاكتفاء من هم العيش بكد.. وعرضها، بعد أن يئست من الالتحاق برجل تأوي إليه، أو ينفتح قلبها لحب، وبعد أن وضعتها العنوسة موضع اليأس، وأنزلتها منازل الإحباط، فاتجهت خطأ إلى ما لا يليق بها، ولا بأهلها، ولا بمجتمعها، والذنب كل الذنب على أولئك الذئاب البشرية، الذين تخوضوا فيما أفاء الله عليهم، فأساءوا توظيفها في موجبات سخطه، وأسقطوا عنهم كل الشيم والقيم التي تقول: (تموت الحرة ولا تأكل من ثديها)، فلو أن إنساناً مات من الحزن والكمد من ذلك ما كان بذلك ملوماً.
وفي نفس الوقت يرى الفقير أخاه الإنسان وفي وطنه وأمام عينه، وهو حديث عهد في النعمة أغناه الفساد وأثرى بالرشوة من قريب، ويرى: من يمضغون القات بمئات الآلاف من الريالات، ويرى آخرين يتفاخرون بالقصور والمفروشات والسيارات الفارهة، ويتكاثرون بالأموال والأولاد، وهو الفقير العائل لأولاده الكثر في عري يسيرون بأقدام حافية وثياب متسخة، لا يجدون ما يطفئ لهيب الجوع تحت ضلوعهم، ولا قيمة حبة دواء لأمراض مزمنة في أجسادهم، ولا فرصة لهم في عمل مباح غير التسول في أبواب المساجد والطرقات، ولقد تذكرت أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أسقط في عام الرمادة حدود السرقات، وطبق قول رسول الله عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من بات شبعاناً وجاره جيعان). فأي ديموقراطية وأي حزبية، وأي انتخابات حرة في شعب يباع فيه صوت الناخب الجائع بكيلو من الأرز، أو رغيف من الخبز، ويبيع حياته بألف جنيه أو ريال؟ أما في غير موسم الانتخابات فيتجه الجائعون بأطفالهم وشبابهم؛ ليس إلى المدارس، والمعاهد والجامعات، ولكن إلى مقلب الزبالة المتراكمة، يسابقون الحيوانات الضالة؛ لعلهم يجدون فضلة رغيف متعفن يشبعون به جوعتهم، أو يسدون به رمقهم، ولقد صدق نابليون بورنابرت في قوله: (البطن الجائعة لا تحمل صدراً وطنياً)، والمجتمع الفقير هو الذي يمثل مزرعة خصبة لزراعة العملاء، والمنتفعين، والجواسيس، والعصابات والمخربين، والدعارة.
ثم نأتي للتساؤل عن سبب هجرة الفقراء سكان الريف الذين لم يعد لهم فيه رزق ولا ذاكر لهم فيه ولا شاكر، فيرحلون إلى المدن وحول المدن ليواجهوا ظروفاً مختلفة، وتختلط بهم التركيبة الاجتماعية لأهل المدينة، وتتماهى في السلوكيات المختلفة شرور وما أدراك من شرور، وزاد الطين بلات الغلاء الفاحش المتوحش، الذي يلتهم ما بيد محدودي الدخل بلا شفقة ولا رحمة:
فالغلاء الوحش ليث كاسر
ينشر الفقر بأرض اليمن
ما على من مات بالجوع إذا
لم يجد حتى رفاة الكفن
مات من جوع ومن خوف ومن
برد كانون وداء مزمن
فتحاوروا يا معشر الفقراء.
Comments are closed.