شهدت العلاقات الأميركية السعودية، خلال الفترة الماضية، حالة من “التوتر والفتور” نتيجة لعدة أسباب، ويشير خبراء تحدث معهم موقع “الحرة” إلى “نقاط خلافية” بين الجانبين وأساليب “رأب الصدع”.
وفي أكتوبر 2022، أعلنت السعودية أن “أوبك +” ستخفض أهداف إنتاج النفط بشكل كبير، وذلك بمقدار مليوني برميل يوميا، ما تسبب في “توتر” العلاقات بين واشنطن والرياض، وفقا لتحليل مطول لمجلة “فورين أفيرز”.
وكان لهذه الخطوة تأثير فوري وإن كان “متواضعا نسبيا”، على أسعار النفط، التي ارتفعت من مستوى منخفض للعام بحوالي 76 دولارا للبرميل قبل الإعلان إلى نطاق يتراوح بين 82 دولارا و91 دولارا بحلول منتصف نوفمبر.
وبصفة السعودية أكبر مصدر للنفط في العالم، فقد أخذ السعوديون دائما زمام المبادرة في جهود المجموعة “لإدارة سوق النفط العالمية”.
وفي الخامس أكتوبر، اتفق أعضاء منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) التي تضم 13 دولة بقيادة السعودية إضافة إلى حلفائها العشرة بقيادة روسيا ضمن تحالف (أوبك +)، على خفض كبير في حصص الانتاج من أجل دعم اسعار النفط الخام التي كانت تتراجع.
وأثارت القرار بخفض إنتاج النفط بمقدار مليوني برميل يوميا، غضب واشنطن، بعدما كانت إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، تأمل في انخفاض الأسعار، حسب “فرانس برس”.
صدمة ومؤشرات
كانت الصدمة التي شعر بها الأميركيون “جيوسياسية أكثر منها اقتصادية”، فقد طلبت إدارة بايدن من المملكة تأجيل الخفض، لكن الرياض مضت في ذلك “متجاهلة واشنطن”، حسب “فورين أفيرز”.
في الأشهر الفاصلة، تراجعت حدة التوتر بين الجانبين، و”نجت العلاقات بين البلدين من أزمات أسوأ”، حسب المجلة.
وفي نوفمبر 2022، منحت إدارة بايدن “حصانة سيادية” لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، في قضية مدنية أميركية رفعتها عليه خطيبة الصحفي، جمال خاشقجي، الذي قتل على “يد عملاء سعوديين”.
وتمثل الحصانة “علامة واحدة” من بين العديد من المؤشرات الأخرى، على أن العلاقة الأميركية السعودية “ليست في طريقها إلى التمزق”، حسب “فورين أفيرز”.
خلافات استراتيجية؟
في عام 1945، التقي الرئيس الأميركي، فرانكلين دي. روزفلت، الملك عبد العزيز على متن السفينة يو.إس.إس كوينسي في قناة السويس، مما مهد الطريق أمام علاقات وثيقة على مدى عقود، وفقا لـ”رويترز”.
ويؤكد أستاذ الدراسات السياسية والاستراتيجية السعودي، محمد بن صالح الحربي، أن العلاقات السعودية الأميركية مبنية على ركائز “متينة وقوية” ضمن الإطار الاستراتيجي منذ عام 1945.
وفي تصريحاته لموقع “الحرة”، يشير إلى أن العلاقات بين البلدين تمر أحيانا بفترات “خفوت” يطلق عليه “الفتور الفني التكيتي المرحلي”، وما يلبث أن يعود الجانبان إلى “العلاقات الاستراتيجية”.
ووفقا لحديث الحربي فإن “السعودية لا تستخدم سلعة النفط في أي توترات جيوسياسية”، وتستخدم المملكة النفط “اقتصاديا وليس سياسيا”.
من جانبه يشير الكاتب والمحلل السياسي السعودي، عبدالرحمن الملحم، إلى أن السعودية لم تتخذ وحدها قرار خفض إنتاج النفط، لكنه كان قرار لمجموعة (أوبك +) بأكملها والتي تنظر لـ”العرض والطلب” بالسوق.
وفي تصريحاته لموقع “الحرة”، يتحدث عن “سوء تفاهم اقتصادي” بين الولايات المتحدة والسعودية، لكن يقول إن العلاقات بين البلدين سياسيا وعسكريا واستراتيجيا فيه “قوية جدا” منذ 82 عاما.
أما الكاتب والمحلل السياسي السعودي، مبارك آل عاتي، يتحدث عن علاقات أميركية سعودية أعمق تاريخيا من أن تصل لـ”مفترق طرق” بمجرد الخلاف على كمية إنتاج النفط.
وفي حديثه لموقع “الحرة”، يشير إلى “فتور” اعترى العلاقات بين البلدين بعد رصد السعودية “سلوك أميركي” في المنطقة لا يتواكب مع آمال وتطلعات المملكة بعلاج قضايا المنطقة الأمنية والسياسية العسكرية والاقتصادية.
ويتحدث عن “حكمة وبعد نظر سعودي” قائم على وجوب حماية العلاقات الممتدة منذ عقود بين البلدين والتي جنت الولايات المتحدة والمنطقة ثمارها ولذلك يجب “إعادتها لإطارها الصحيح”.
خلافات شخصية؟
تشير المجلة إلى “تعارض” بين شخصيتي الرئيس الأميركي، جو بايدن، وولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، فالأخير “عنيد واستبدادي” ويسعى إلى إعادة تشكيل اقتصاد المملكة ورفع دور بلاده كلاعب عالمي مستقل.
وعلى النقيض من ذلك، فإن بايدن “لديه أسلوب أكثر حذرا ويريد جعل الديمقراطية محور سياسته الخارجية، ويسعي لحشد العالم ضد روسيا والصين”.
وكانت تلك “الفجوة” بين شخصيتي وأهداف الرجلين مهمة بلا شك في تشكيل العلاقات بين البلدين، حسب “فورين أفيرز”.
لكن الحربي يستبعد وجود “خلافات أو اختلافات شخصية” بين الجانبين، ويقول إن المملكة تتعامل مع دولة المؤسسات الأميركية وفقا للمصالح المشتركة بين البلدين، ودون النظر إلى ساكن البيت الابيض سواء كان “ديمقراطيا أم جمهوريا”.
ويشير إلى أن “الولايات المتحدة دولة مؤسسات وحجم التبادل التجاري بين البلدين ارتفع في عهد بايدن بنسبة 33 بالمئة”.
وتم توقيع اتفاقيات عسكرية وشراكات بين الجانبين وهناك مناورات وتدريبات مستمرة بين واشنطن والرياض، في دليل على أن البلدين لا يدخلان “أي أمور شخصية” في إدارة الملفات، وفقا لحديث الحربي.
من جانبه، يقول آل عاتي إن الخلاف ليس شخصيا بقدر ما هو “خلاف متأصل” منذ عهد إدارة الرئيس السابق باراك أوباما بسبب حرص الرئيس جو بايدن على التمسك بها”.
وحسب حديثه فقد تمسكت إدارة بايدن بهذا “الإرث” في ظل معطيات جديدة وسعودية جديدة وقيادات مختلفة بالمنطقة، ما جعل الرئيس بايدن يطلق تصريحات “تجاوزت الخطوط الحمراء”، مستشهدا بتصريح الرئيس الأميركي الشهير “سأجعل السعودية دولة منبوذة”.
كان بايدن تعهد خلال حملته الانتخابية بجعل المملكة “منبوذة” على خلفية قضية مقتل الصحفي السعودي، جمال خاشقجي، الذي كان يقيم في الولايات المتحدة، وفقا لـ”فرانس برس”.
وتسبب ذلك في “استمرار الخلاف السياسي” بين الرياض وواشنطن مع أن السعودية أطلقت رسائل مهمة للإدارة الأميركية لكن الرئيس بادين تعامل معها بـ”عدم احترام” ولم يعطي المملكة مكانتها التاريخية والسياسية والاقتصادية، وفقا لحديث آل عاتي.
ويتفق معه الملحم، الذي يرى أن “إدارة بايدن استمرت في تطبيق نهج وسياسة أوباما”، وهو الأمر الذي خلق جوا من التوتر الكبير بين الولايات المتحدة والدول العربية عامة ودول الخليج بصفة خاصة”، على حد قوله.
ما دخل إيران؟
شن الرؤساء الأميركيون الثلاثة السابقون حملتهم على أساس أن الولايات المتحدة بحاجة إلى قضاء “وقت وجهد أقل” في الشرق الأوسط، وهذا لا يبعث على الارتياح للسعودية التي ترى إيران وقد وسعت نفوذها في العراق ولبنان وسوريا واليمن، ما يمثل تهديدا إقليميا خطيرا لـ”الرياض”، وفقا لـ”فورين أفيرز”.
وكان الهدف المعلن لتركيز الولايات المتحدة على منطقة الخليج العربي على مدار السبعين عاما الماضية هو حماية التدفق الحر للنفط، لكن عندما شنت إيران هجوما صاروخيا وطائرة بدون طيار على منشآت النفط السعودية في سبتمبر 2019، لم تفعل إدارة ترامب شيئا، على الرغم من العلاقات الوثيقة التي عززتها مع الرياض.
ويقول مبارك آل عاتي، إن “الخلاف السياسي”، بدأ من أواخر عهد الرئيس جورج بوش الأبن وصولا للرئيس بايدن، وذلك بسبب “السلوك الأميركي” الذي تمثل في تعامل بارد وغير مهتم مع قضايا منطقة الشرق الأوسط دون حل حقيقي”، على حد تعبيره.
ويشير في حديثه إلى “التساهل الأميركي” مع الملف النووي الإيراني وسلوك إيران المزعزع لاستقرار الدول العربية، ما تسبب في استشراء النفوذ الإيراني في سوريا ولبنان واليمن والعراق دون تحرك حقيقي لواشنطن من شأنه كبح جموح إيران.
وحسب “فورين أفريز”، فإن مع تحول النظام الدولي إلى متعدد الأقطاب، وفي ظل تغيرات بميزان القوى العالمي “تضاءل النفوذ النسبي لواشنطن” مما يجعل الدول ذات القوة المعتدلة مثل السعودية أقل اعتمادا على قوة عظمى واحدة فقط.
ويدفع تغير المناخ العالم بعيدا عن الوقود الأحفوري، ولذلك تتعرض السعودية لضغوط للاستفادة من احتياطياتها النفطية “بينما لا تزال تستطيع”.
وأصبحت العلاقات الأميركية مع السعودية “مستقطبة بشكل مكثف” على طول الخطوط الحزبية في الولايات المتحدة، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أن السعوديين أنفسهم أوضحوا تفضيلهم للجمهوريين.
وتقول المجلة “إذا فهم كلا الجانبين هذه التحولات حتى يمكنهما الوصول إلى مجموعة أكثر واقعية من التوقعات المشتركة”.
الصين وروسيا
تعد الصين الآن أكبر عميل وشريك تجاري للسعودية في مجال النفط، وزادت التجارة بين المملكة العربية السعودية والصين من أقل من 500 مليون دولار في عام 1990 إلى 87 مليار دولار في عام 2021.
وفي نفس العام، كانت قيمة الصادرات السعودية إلى الصين ومعظمها من النفط والمنتجات البترولية “أكبر بثلاث مرات” من الصادرات السعودية إلى الولايات المتحدة.
وتعتبر روسيا “الشريك الضروري” للمملكة العربية، في إدارة سوق النفط العالمية.
وتنتج دول (أوبك +) ما يقرب من 40 مليون برميل من النفط يوميا، وتشكل السعودية وروسيا مجتمعتين أكثر من نصف هذا العدد.
واختلفت السعودية والولايات المتحدة كثيرا في الماضي حول أسعار النفط، لكن الاختلاف هذه المرة هو “السياق الجيوسياسي”، وخاصة في ظل الحرب بأوكرانيا، والتي حددتها إدارة بايدن كنقطة انعطاف تاريخية ستحدد “مستقبل النظام العالمي”.
وبالنسبة للسعودية، كما هو الحال بالنسبة للعديد من الدول الأخرى، بما في ذلك “الهند وإسرائيل”، هي مجرد “حرب إقليمية”، حسب “فورين أفيرز”.
ويرى الملحم أن “لا دخل للصين وروسيا” في توتر العلاقات بين واشنطن والرياض، واصفا الأمر بأنه “اختلاف بسيط في العلاقات الاقتصادية”.
لكن آل عاتي يؤكد أن “السعودية لديها رؤية اقتصادية 2030 قائمة على تعديد مواردها الاقتصادية وتحويل النفط من مدخول رئيسي إلى رابط من الروابط الاقتصادية”، ويقول إنها “قاعدة تنطبق سياسيا”.
ويقول “هناك انفتاح من قوى دولية مثل الصين وروسيا والهند والبرازيل وغيرها على السعودية، وقد قدمت كل أنواع الدعم للمملكة”.
لكنه يشير إلى أن المصالح هي من تحرك “مؤشر بوصلة التوجه السعودية” ولا تخضع لتأثير “روسي أو صيني”، مستعبدا أن يكون لـ”روسيا أو الصين تأثير قوي على السياسة السعودية”.
وحسب حديثه فإن “كل ما يعني روسيا والصين وغيرها من الدول هو الانفتاح مع السعودية وإقامة مصالح معها”.
إصلاح العلاقات
تشير “فورين أفيرز” إلى أهمية إصلاح العلاقات بين “الولايات المتحدة والسعودية”، واعتبرت أن الخطوة الأولى هي إدراك سبب تغيرها.
وبالنسبة للسعوديين، تلوح الصين وروسيا الآن في الأفق أكثر من أي وقت مضى، لكن هذا لا يعني أن الرياض ستعمل ضد الولايات المتحدة على المستوى العالمي، حسب المجلة.
وفيما يتعلق بالقضايا الكبرى في الشرق الأوسط، فإن واشنطن والرياض ليستا بعيدتين عن بعضهما البعض، ولم يعد العائق التقليدي “العلاقة الوثيقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل”، عقبة بفضل “الدفء في العلاقات السعودية الإسرائيلية”، حسب المجلة.
ويبدو أن جهود إحياء الاتفاق النووي الإيراني، الذي انسحب ترامب منه في 2018، “ستفشل”، وسيتعين على واشنطن حتماً أن تجد سياسة جديدة لردع أو منع إيران من الحصول على أسلحة نووية مع الحد من النفوذ الإيراني في المنطقة أو تقليصه، ولدى السعودية “نفس المصلحة”.
ولا تزال الولايات المتحدة مهتمة بمنع عودة التنظيمات المتطرفة مثل “القاعدة وداعش” وجماعات أخرى.
وفي عهد محمد بن سلمان، لم تعارض السعودية تلك الجماعات في المنطقة فحسب، بل قللت أيضا من تأثير المؤسسة الدينية السلفية في المملكة، حيث تشجع حاليا على تفسير أكثر” تسامحا وانفتاحا للإسلام”، وفقا لـ”فورين أفيرز”.
وعلى الرغم من خلافاتهما حول أسعار النفط، لا تزال المصالح الاقتصادية للبلدين “متداخلة”.
وتسعر الرياض نفطها بالدولار، وهو ما يدعم دور الدولار كعملة احتياطية للعالم لأن مستهلكي النفط يجب أن يكون لديهم دولارات في متناول اليد لتمويل احتياجاتهم من الطاقة.
ومن مصلحة الرياض وواشنطن مواصلة التعاون في القضايا العسكرية والاستخباراتية، وبالنسبة للسعودية، فلا تستطيع روسيا أو الصين توفير مستوى التعاون الأمني الذي تستطيع الولايات المتحدة القيام به.
ويرى محمد بن صالح الحربي أن الخلافات “فنية تكتية مرحلية وقتية” وتتمحور حول”ملف الطاقة”، ويقول إنها لم تصل لمرحلة “تتطلب الإنقاذ”.
من جانبه يشير آل عاتي إلى ضرورة سعي واشنطن والرياض لإعادة تقييم علاقتهما وفقا لـ”أسس وركائز راسخة” تأخذ في الحسبان وقائع الحاضر ومتطلبات المستقبل وآمال وطموحات المملكة بحماية أمنها ومنطقتها وحدودها “الجيوسياسية”.
ولتحقيق ذلك يجب عقد المزيد من الاجتماعات الاستراتيجية وإدراك كل جانب مصالح الآخر والاتفاق عليها، وتوقيع اتفاقيات جديدة تؤسس لمرحلة من العلاقات قائم على “تبادل المصالح ولا تضعها على محك أو مفترق”، وفقا لحديثه.
ويجب الاستمرار في تحجيم الأنظمة المارقة عن القانون الدولي والحرب على الإرهاب، وإدراك المصالح الدفاعية السعودية، والحد من انتشار السلاح النووي ومتعدد المخاطر في المنطقة، وهو ما تستطيع الولايات المتحدة طمأنة الدول به، على حد تعبير آل عاتي.
Comments are closed.