بقلم: عيسى الشعيبي
ألقت واقعة استشهاد الأسير ناصر أبو حميد في معتقل إسرائيلي، الأسبوع الفائت، ضوءاً كثيفاً على سياسة انتقام منهجية لدى سلطات الاحتلال، معتمدَة منذ عقود طوال، تقضي بإعادة اعتقال جثامين بعض الشهداء إلى أجل غير معلوم، وأبرزت هذه الفعلة الشنعاء، أكثر من كل سابقاتها، فائض الوحشية الإسرائيلية إزاء المقاومين الفلسطينيين، نظراً إلى رفعة مكانة القائد أبو حميد في وجدان شعبه، فضلاً عن بأسه وعلوّ كعبه في الكفاح الوطني، منذ كان فتىً في انتفاضة الحجارة، وعلى مدى 50 سنة من عمره، قضى منها 30 حولاً في الأسر، مسجّلاً هو وأربعة من أشقائه (شهيد واربعة معتقلين) حالة نضالية عائلية نادرة ومشرّفة في سجل الثورة الفلسطينية.
تثير حالة ناصر أبو حميد الفريدة، سواء لطول مجموع فترات اعتقاله، أو لمدة حكمه بالمؤبد سبع مرّات، أو لظروف إصابته بالمرض العضال، مشاعر مختلطة بين الأسى والاعتزاز، وتحثّ على إمعان النظر، ليس في دوافع الاحتلال الخاصة بإعادة اعتقال الجثامين فحسب، وإنما أيضاً في المركّبات الذهنية المشوّهة، والرواسب التاريخية الملتبسة، ناهيك عن الافتقار للروح الآدمية، واستشراء الممارسات الفاشية، وغير ذلك كثير من المظاهر السلوكية الشاذّة، والارتكابات البربرية، وكلها دلائل نابعة من خوف السارق على ضياع سرقته، وذعر القاتل من افتضاح أمره، وربما هلعه من انقلاب الموازين ذات يوم ضده، سيما وأن لعنة الثمانين من العمر في المدوّنات العبرية، وهاجس الفشل الوجودي، لا تزال تلاحق التجربة الإسرائيلية.
لا تسعف الذاكرة، ولا المرويّات المكتوبة في العثور على سلوك ثأري مشابه، حبَس فيه عدو جثامين أعدائه، سواء لإشفاء الغليل أو لإشباع الرغبة في الانتقام، أو حتى لمبادلة جثث بجثث، كما تزعم اليوم هذه العقلية السادية في معرض تبريرها سبب احتجاز جثمان ناصر، فيما الحقيقة تقول إن الاحتلال لم يتمكّن من تسوية الحساب الطويل مع الرجل في حياته، وأنها لا تودّ التوقف عن الانتقام من المقاتل العنيد بعد وفاته، لقتله سبعة مستوطنين.
ولعلّ متابعين كثيرين في الخارج لا يعلمون أنّ دولة الاحتلال الأخير في عالم اليوم لا تعيد اعتقال الجثامين فقط، وإنّما تقيم منذ ما بعد حرب يونيو/ حزيران 1967، إلى جانب معتقلاتها العديدة فوق الأرض، معتقلاً تحت الأرض في الأغوار الشمالية، مخصّصاً لاحتجاز جثامين مئات الشهداء العرب والفلسطينيين، أسمته مقبرة الأرقام، إمعاناً من أصحاب الذاكرة المثخنة بالمآسي المبرّحة (من السبي البابلي إلى الهولوكوست) في تسديد ما أمكن لهم من الثارات التاريخية، ومحاكاة جلّاديهم عبر العصور (ليس بينهم عرب ومسلمون)، الأمر الذي يشير، مرة أخرى، لا إلى مظهر من مظاهر القوة كما يبدو للوهلة الأولى من خطاب اليمين المتطرّف، وإنما إلى الذعر المبثوث في ثنايا الذهنية المريضة بالاحتلال والاستيطان والتوسّع.
في ما يتصل بواقعة اعتقال جثمان الشهيد أبو حميد، وهو القرار الذي اتّخذته المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بعماء بصيرة، فمؤكّد أنّ هذا القرار المؤذي لأمه ورفاق كفاحه وذويه لا يخصم من رصيد هذا المناضل الذي كان يُلقب، لشجاعته وشدّة بأسه، بالأسد المقنّع أيام الانتفاضة الثانية، بل سيرفع من شأنه لدى أبناء شعبه، ويضاعف من حضوره قائداً وطنياً فذّاً لدى الأجيال الطالعة، يضيف إلى قائمة القادة الشهداء اسماً كبيراً، يقدّم النموذج، المثال والقدوة، ويلهم الشباب بسيرته الحافلة بالبطولات. وفي ذلك كله مكاسب معنوية مهمة متراكمة في الجانب الدائن من حساب الأرباح الفلسطينية، بينما يضيف الاحتلال في ميزان رصيده الدموي المزيد من خساراته الأخلاقية والسياسية بعيدة المدى، فالشاة لا يضيرها سلخُها بعد ذبحها.
ويكاد تعليق صحيفة هآرتس الإسرائيلية على قرار مواصلة اعتقال ناصر أبو حميد بعد وفاته يلخّص جانباً مهماً من المسألة المثارة، أنّ حصيلة هذه السياسة المتبعة منذ سنين عديدة، من دون إعادة تقييم أو مراجعة، كانت صفراً، وأنّ مواصلة احتجاز جثامين المقاومين الفلسطينيين، ناهيك عن نسف البيوت، لم يردع الشباب والشابات عن التصدّي لقوات الاحتلال بأبسط أدوات المقاومة المتاحة.
وفي ذلك عِبَر لا تستطيع العقلية المتبتّلة في محراب القوة العسكرية المجردة، ولا الروح الثملة بكؤوس الكراهية، الاعتبار بنتائجها المتراكمة على طول الطريق إلى الفشل النهائي، مهما كان هذا الطريق طويلاً وصعباً.
Comments are closed.