بقلم: تيسير خالد
انطلت حيلة بن غفير على الكثيرين من الذين صدقوا أنه قرر تأجيل اقتحامه لساحات المسجد الأقصى كوزير للأمن القومي في حكومة بنيامين نتنياهو السادسة . بن غفير فاجأ الجميع وقام بعملية الاقتحام معززا بقوة كبيرة من الشرطة التي خصصت لحراسته وتمكينه من فعلته . بنيامين نتنياهو لم يكن بعيدا عن المشهد ، فهو لا يرضي لنفسه ان يكون آخر من يعلم أو ( شاهد ما شافش حاجة ) ، فجاءت ردود الفعل واسعة بما في ذلك ردود الفعل الاجنبية والعربية المطبعة مع الكيان الاسرائيلي ، فالجميع شعر بالخذلان ووقع تحت وطأة الخديعة .
ولكن ما الذي يريده بن غفير من فعلته ، هل تكرار الممارسات الاستفزازية التي اعتاد ان يقوم بها في غير مناسبة قبل ان يصبح وزيرا . الجواب على هذا السؤال في متناول اليد ، فوزير الأمن القومي الاسرائيلي هو الآن في موقع صاحب القرار ، إنه صاحب الشرطة وخطواته من هذا الموقع لها مدلول أبعد من الاسنفزاز ، الذي اعتاد الجميع عليه . صاحب الشرطة يريد بهذه الخطوة الوزارية أن يختبر ردود الفعل على ما هو ابعد من الاستفزاز في مخططاته ، ولا أظن أن هذا يزعج نتنياهو ، فلماذا لا تكون أفعال صاحب شرطته بالون اختبار . كثير من الحكام في موقع المسؤولية الاولى يستخدمون مثل هذه الأساليب لقياس ردود الفعل والبناء عليها ، ونتنياهو مع بن غفير ليس استثناء بل هما القاعدة لما هو أبعد , فكلاهما يخططان لخطوة بعيدة المدى في تأثيراتها ، وهي خطوة يجب ان نذكر الجميع بالتقسيم المكاني والزماني للحرم الايراهيمي الشريف في الخليل . فمن الاستيلاء على الحضرة الابراهيمية وتحويلها الى كنيس يهودي الى قرار لجنة شمغار بعد مجزرة الحرم الابراهيمي الشريف ، التي ارتكبها شبيه بن غفير عام 1994 ، تم انجاز المهمة . هكذا هو المخطط للمسجد الأقصى المبارك وهو ليس مخطط بن غفير وحده بقدر ما هو وجهة بنيامين نتنياهو ، الذي يكرر الادعاء دون ملل مستعينا بالأساطير وأقوال العرافين بأنه لم يأت وأسلافه الى هذه البلاد غزاة على ظهر وعد بريطاني بل محررا لأرض الآباء والأجداد ، وهي اساطير تزخر بها أسفار الملوك والأيام . المخطط واضح وهو التقسيم المكاني والزماني للمسجد الأقصى ، خطوة على طريق إعادة بناء الهيكل المزعوم .
وفي حديث الأساطير فإنها ترسم لنا في العادة صورة اقرب الى الخيال منها الى الواقع عن عادات و تقاليد وطقوس في مجتمع معين ومرحلة في التاريخ معينة لتقوم في العادة بتضخيم الشخصية او الحدث وتكسبه رمزية او حتى قداسة ، وهو ما نجده كثيرا في الميثولوجيا الدينية ، التي لا تقتصر على شعب معين او فئة بشرية معينة . فكثير من الشعوب والفئات البشرية لها أساطيرها بما في ذلك الدينية . وعلى كل حال ، كلما ابتعدنا في الزمن عن حدث الاسطورة الدينية او غيرها كلما تغيرت صورتها زيادة او نقصانا حتى ترسو بصورتها النهائية على اعتبارها امرا لا يقبل التشكيك . اسطورة الخلق مثلا موجودة في ملحمة جلجامش البابلية فقد خلق الله انكيدو من الطين ، تماما كما كان الحال في سفر التكوين . حتى في الأساطير الهندوسية والأساطير الصينية خلق الانسان من تراب الارض ، لا يهم هنا لون ذلك التراب فقد يكون أصفرا كما هو الحال في الأساطير الصينية .
الهيكل المزعوم هو أيضا من ذلك النوع من الأساطير او الميثولوجيا الدينية ، بناه سليمان لعبادة الرب ، غير انه استضاف الى جانب يهوه اربابا آخرين تجسدوا في تماثيل احتلت مكانها في الهيكل لآلهة زوجاته من المؤابيات والصيدونيات والآدوميات والعمونيات والحثيات والقبطيات ، ما استدعى غضب الرب ووعيده بتمزيق مملكته بعد وفاته مباشرة . مثل ذلك الهيكل لم يعثر عليه علماء الآثار ، فقد كان اسطورة . لم يكن لذلك الهيكل معنى او وجود عند القبائل العبرانية التي استوطنت شمال بلاد كنعان ، تماما كما هو الحال مع السامريين هذه الأيام . فأورشليم لا تعني لهم اكثر من مدينة عادية ، أما هيكلهم فهناك على قمة جبل جرزيم لمدينة نابلس .
هيكل بن غفير وغيره من أمناء وجماعات الهيكل له قصة مختلفة وهي قصة مشوقة وتنتمي الى عالم الميثولوجية الدينية . هي قصة فريدة في نوعها ، اسطورة ليس كغيرها من الأساطير ، فهي وفقا لأسفار الملوك والأيام وتحديدا سفر الملوك الأول ( الاصحاح الثاني ) على النحو ، الذي يؤكد انتماءها لعالم الميثولوجيا الدينية . المواد المستخدمة في البناء وعدد العمال كان خياليا ، فالذهب المستخدم في البناء كان مائة ألف وزنة ، [ والوزنة تعادل ستة عشر جراما تقريبا] أي : 1,6 طن من الذهب ، والفضة : مليون وزنة أي : 16 طنا ناهيك عن الحديد والنحاس بلا وزن ، فضلا عن أخشاب لبنان وحجارة ما وراء النهر . بناء ذلك الهيكل المزعوم استغرق سبع سنوات وكان عدد العمال المشاركين في البناء 180 ألف عامل ، منهم 30 ألف عامل أرسلهم سليمان إلى لبنان لقطع الأشجار وعليهم رؤساء عددهم 3600 أو 3400 حسب اختلاف الأسفار في عددهم . اما مساحة البناء بطبقاته فكان ستون ذراعا (30 مترا تقريبا) طولا ، وعرضه عشرون ذراعا (10 أمتار) ، وارتفاعه ثلاثون ذراعا (15 مترا) ، مع رواق أمامه طوله عشرون ذراعا وعرضه عشرة أذرع .ذلك يعني اننا امام بناء صغير لا يحتاج بناؤه كل هذه السنوات ومثل هذه المواد وهذا العدد الهائل من العمال .
بن غفير بأعماله الاستفزازية الشيطانية كغيره من جماعات الهيكل ، يحملون في ايديهم أعواد ثقاب وعلى اكتافهم براميل بارود ، يرقصون في باحات المسجد الأقصى ، يمجدون الاسطورة ويرون فيها ضالتهم وأعينهم على التقسيم المكاني والزماني ، خطوة على طريق إعادة بناء الاسطورة . أما نتنياهو فغير بعيد عن ذلك ، فهو كذلك يعتقد ، كما كان حال بن غوريون ، أن مملكة الرب حدودها خط حمص في الشمال السوري ومركزها هيكل لا تكتمل المملكة دونه .
وفي المقابل كان ياسر عرفات على حق . ففي كامب ديفيد خاطبه الرئيس الاميركي بيل كلينتون منوها بشجاعته يطلب منه الاعتراف بوجود الهيكل المزعوم في المكان . عرفات أدار ظهره للرئيس ورفض طلبه بشجاعة وأحاله الى الطائفة السامرية على جبل جرزيم .
Comments are closed.