طفل لم ير والده منذ 16 عاما وآخر يعيش وحيدا في قطاع غزة
“لم أر والدي بالمطلق، لقد غادر بعد ولادتي بـ4 أشهر، مرت سنوات كثيرة وتفتحت عيناي على الدنيا، ووالدي ليس بجواري”، يقول الطفل محمود سالم (16 عاما) من قطاع غزة الذي يحرمه الاحتلال الإسرائيلي من لقاء والده الذي يعيش في الضفة الغربية، ضمن سياسة منع لم الشمل والحصار المفروض على قطاع غزة.
ويضيف محمود، للحركة العالمية للدفاع عن الأطفال، “كنت أرى الأولاد بالمدرسة عندما يأتي أباؤهم للسؤال عنهم، يلعبون ويلهون معهم، ويسيرون مع بعض في الشارع، كأسرة متكاملة، لكن أنا محروم من تلك اللحظات التي أحتاج فيها والدي إلى جانبي، وهذا الموضوع أثر عليّ كثيرا وعلى نفسيتي، أفتقد والدي كثيرا، أفتقد حضنه ورائحته، أفتقد أمان الأب”.
“غياب والدي أثر عليّ بالمدرسة، فكان آخر صف دراسي درسته هو الصف التاسع، لم أجد أي أحد يتابعني فوالدتي ماذا ستفعل لوحدها؟ لو كان والدي معنا لاختلف كل شيء بالنسبة لي”.
وقال: “قام والدي عام 2007 بتقديم طلب تغيير عنوان لوالدتي من أجل أن ننتقل للعيش معا في الضفة الغربية، وهذا الطلب ينتظر الموافقة الإسرائيلية، لكن حتى اللحظة لم تنظر سلطات الاحتلال الإسرائيلي في الطلب”.
ويتمنى محمود أن يجلس بجوار والده ويتحدث معه وجها لوجه، “نفسي أشوف أبوي بشكل حقيقي، لأنه من يوم ما وعيت على الدنيا ما شفته، صار عمري 16 عاما وما شفت أبوي، بأي قوانين في الدنيا يمنع الأب إنه يشوف أولاده ويعيش معهم؟ أنا بطالب العالم كله ومؤسسات حقوق الإنسان يتدخلوا بقضيتنا ويضغطوا على إسرائيل علشان تنظر بملفنا وتغير العنوان”.
حصار مشدد على قطاع غزة منذ عام 2006
وتواصل سلطات الاحتلال فرض حصار مشدد على قطاع غزة منذ عام 2006، وهو شكل غيـــر مســـبوق مــــن أشــــكال العقــــاب الجماعــــي، حــــين أعلنــــته “منطقـــة مغلقـــة”، ففرضـــت القيـــود علـــى دخـــول الوقـــود والبضائع وحركـــة المواطنـــين مـــن وإلـــى القطـــاع، وعلى مر السنين، وعملـت علـى ترسـيخ سياسـة عـزله، مـن خـلال فصلـه عـن الضفـة الغربيـة، وترتـب عـلى ذلك التضييـق علـى دخـول وخــروج المواطنين الفلســطينيين مــن وإلــى القطــاع، ومنــع الطلبة الجامعييــن فــي غــزة مــن تلقــي التعليـم فـي جامعـات الضفـة الغربيـة، كمـا جـرى منـع العديـد مـن الأكاديميين والطواقـم الطبيـة والخبـراء مـن التنقـل، بالإضافة إلـى حرمـان الغالبيـة العظمـى مـن العائلات داخـل وخـارج القطـاع مـن الالتقاء ولـم الشـمل، الأمر الذي أسفر عن حرمان عشرات الأسر الفلسطينية من التواصل مع بعضها.
الطفل أبو حمادة يعيش وحيدا عند جدته في القطاع
يعيش الطفل محمد أبو حمادة (16 عاما)، من سكان منطقة أبراج الكرامة شمال القطاع، عند جدته وخالته وحيدا، إذ تقيم والدته وشقيقاه مجد (14 عاما) ومسك (عامان) في مدينة بيت لحم بالضفة الغربية، فيما بقي هو وحيدا في القطاع بانتظار موافقة سلطات الاحتلال على طلب تغيير عنوانه.
“منذ مغادرة والدتي تراجع مستوى تحصيلي العلمي، فوالدتي كانت تساعدني في دراستي، والآن تشتتت عائلتنا بين الضفة والقطاع، وطريقة التواصل الوحيدة هي مواقع التواصل الاجتماعي”، قال الطفل أبو حمادة.
وأضاف: أفتقد عائلتي، وأفتقد أخي مجد كثيرا. طوال الوقت أفكر بمستقبلي هنا في قطاع غزة بعيدا عن أسرتي، أريد أن أواصل دراستي في جامعات الضفة الغربية”، مطالبا المؤسسات الحقوقية والدولية كافة بالضغط على الاحتلال للم شمله مع أسرته.
وفي تقرير أصدرته منظمة “هيومن رايتس ووتش”، عام 2012، بين أن السياسات الإسرائيلية بشأن الإقامة الفلسطينية حرمت بشكل تعسفي آلاف الفلسطينيين من القدرة على العيش في الضفة الغربية وقطاع غزة والسفر إليهما، مؤكدا أنه يجب على إسرائيل الكف فورا عن رفض أو إلغاء إقامة الفلسطينيين وأفراد عائلاتهم المقربين، الذين لهم صلات عميقة بالضفة الغربية وغزة، وإنهاء الحظر الشامل على معالجة طلباتهم للحصول على الإقامة.
وقال التقرير إنه في أيلول/ سبتمبر 1967، أجرت إسرائيل إحصاء سكانيا في الضفة الغربية وقطاع غزة بعد ثلاثة أشهر من احتلالها لهذه الأراضي، بإحصاء 954،898 فلسطينيًا كانوا موجودين فعليًا. استبعد التعداد ما لا يقل عن 270 ألف فلسطيني كانوا يعيشون هناك قبل حرب 1967 لكنهم تغيبوا أثناء التعداد، إما لأنهم هربوا خلال حرب 1967 أو كانوا في الخارج للدراسة أو العمل أو لأسباب أخرى. لم تُدرج إسرائيل هؤلاء الفلسطينيين في سجل السكان وبعد ذلك بوقت قصير منعت العديد منهم، بمن فيهم جميع الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و60 عاما، من العودة، وقالت إنهم غير مؤهلين للتقدم بطلب للحصول على الإقامة.
كما شطبت إسرائيل من السجل آلاف الفلسطينيين الذين سافروا وأقاموا في الخارج لفترات طويلة، في الفترة من 1967 إلى 1994، قامت بذلك مع 130.000 فلسطيني من الضفة الغربية، وبالتالي منعتهم من العيش في المنطقة كمقيمين دائمين بشكل شرعي.
أطفال سافروا إلى تركيا ليتمكنوا من رؤية والدهم
المتحدثة باسم الزوجات العالقات في قطاع غزة حنان أبو صاع (35 عاما) تقول إنها تعرفت على زوجها الذي يحمل هوية الضفة الغربية في دولة الإمارات، وتضيف: “بدأت مشاكلنا مع تفشي وباء كورونا نهاية عام 2019، وتأثر عمل زوجي جراء ذلك، قبل أن يتم فصله بشكل نهائي، وبالتالي انتهت إقامتنا في الإمارات، ما اضطرنا للعودة أنا وأطفالي الثلاثة للسكن في قطاع غزة، بينما عاد زوجي للعيش مع أهله في طولكرم، على أمل أن نتمكن من تغيير عنوان الإقامة المكتوب في بطاقة هويتي من غزة إلى الضفة الغربية”.
سافرت أبو صاع لمدة 3 أشهر مع أطفالها إلى تركيا لكي يلتقوا بوالدهم، وتقول إنهم صرخوا فرحا حينما شاهدوا والدهم في المطار لاستقبالهم، “مكثنا في تركيا ثلاثة أشهر مع بعض، والحياة عادت لأسرتنا خلال هذه المدة، لكن تكاليف الرحلة مكلفة جدا”.
بعد عودتها من تركيا قررت أبو صاع السفر للأردن والإقامة هناك مع أطفالها حتى تكون قريبة من زوجها، لكنها لم تتمكن من ذلك وعادت إلى قطاع غزة بسبب عدم حصولها وأطفالها على “عدم ممانعة”.
تنشط أبو صاع مع عشرات النساء اللواتي يعانين من مشكلة تغيير العنوان في قطاع غزة، وتقول “لا نزال ننتظر رد سلطات الاحتلال على طلباتنا بتغيير العنوان، وعددنا يتجاوز 100 عائلة تقريبا، نحن لا نطلب اللجوء لدول أوروبية، نريد أن نغير عنواننا من مدينة لأخرى في بلدنا ونجتمع بأزواجنا، وأولادنا يجتمعون مع آبائهم كبقية أطفال العالم، لكننا لا نتمكن من ذلك”.
لقد حوّل الاحتلال الإسرائيلي قطاع غزة إلى سجن كبير، ضاربا بعرض الحائط كافة المواثيق والأعراف الدولية، معتبرا أن لم شمل الأسرة ليس مبررا لمنح تصريح عبور بين القطاع والضفة الغربية.
وقد تركت هذه السياسة آثارا نفسية واجتماعية سلبية على الأطفال المحرومين من لم شملهم بشكل خاص، الأمر الذي يتطلب بذل جهود دولية من أجل جمع شملهم مع أسرهم.
إن الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال تؤكد أن هذا الوضع هو انتهاك جسيم لاتفاقيات حقوق الطفل والحق في تكوين أسرة والرعاية الأسرية.
وشددت إسرائيل قيودها على الإقامة الفلسطينية في أيلول/ سبتمبر 2000، في بداية “انتفاضة الأقصى”، ومنعت الفلسطينيين الذين لم تسجلهم كمقيمين في الضفة الغربية من الدخول إلى هناك، وبالمثل منعت الفلسطينيين غير المسجلين من دخول غزة، حيث تسيطر بشكل كامل على جميع المعابر الحدودية، منذ عام 2005.
وابتداء من عام 2000 أيضا، حسب تقرير “هيومن رايتس ووتش”، رفضت إسرائيل معالجة طلبات التسجيل والإقامة من قبل الفلسطينيين غير المسجلين وأزواجهم وأقاربهم المقربين، حتى لو كانوا يعيشون في الضفة الغربية أو غزة لسنوات ولديهم عائلات، أو منازل، أو وظائف، أو روابط أخرى هناك.
كما منعت دخول الضفة الغربية لجميع الفلسطينيين تقريبا الذين سجلتهم كمقيمين في قطاع غزة، ورفضت السماح للفلسطينيين الذين يعيشون في الضفة الغربية، ولكن المسجلين في غزة، بتغيير عناوينهم المسجلة إلى الضفة الغربية. حوالي 35000 من هؤلاء “الغزيين” دخلوا وأقاموا في الضفة الغربية.
فصل بين العائلات
وفي تقرير مشترك لمكتب الدفاع عن الفرد (هموكيد) الإسرائيلي ومنظمة “بيتسيلم” عام 2014، بين أن القيود التي تفرضها إسرائيل على الانتقال من وإلى قطاع غزة تؤدي للفصل بين أفراد العائلات، وهي تفرض على الأزواج الذين يسكن أحدهما في قطاع غزة والآخر (الأخرى) في الضفة الغربية أو إسرائيل، حياة خاضعة لسلسلة من القيود البيروقراطية، من دون أيّ إمكانية لتسيير روتين حياة واقعيّ.
وأشار التقرير إلى أن جميع الأحكام المتعلقة بالدخول إلى قطاع غزة والخروج منه تشترط أن يكون العابر(ة) خاليًا من أيّ مانع أمنيّ. ويكفي في هذه الحالة أن تدّعي السلطات الإسرائيلية وجود مثل هذا المانع، حتى حين يكون هذا متعلقًا بأحد أفراد العائلة وليس بالمتقدّم بطلب العبور، بحيث يؤدّي هذا للحيلولة دون أيّ إمكانية دخول إلى قطاع غزة أو الخروج منه.
وأضاف أن إسرائيل تحظر العبور من قطاع غزة إلى الضفة الغربية، باستثناء الحالات الإنسانية الاستثنائية والنادرة جدًا، والتي تشمل الأمراض المستعصية والموت أو الزواج، وكلها متعلقة بقريب من الدرجة الأولى. وحتى في مثل هذه الحالات لا تُقبل جميع الطلبات، وفي أحيان عديدة يصل الردّ بتأخير كبير يُفقده معناه، فعلى سبيل المثال الطلبات المتعلقة بزيارة أحد أفراد العائلة القابع في المستشفى أو حضور حفل زفاف أو جنازة.
وأوضح التقرير أن الزفاف لا يعتبر واحدا من الظروف التي تُبرّر إصدار تصريح بالعبور بين قطاع غزة والضفة وأماكن أخرى، كما تحظر إسرائيل تغيير عنوان الإقامة في بطاقة الهوية من قطاع غزة إلى الضفة الغربية. ومنذ عام 2007 تتعامل إسرائيل مع الفلسطينيين الذين يسكنون الضفة الغربية وتظهر أسماؤهم في سجلّ السكان على أنهم من سكان القطاع، باعتبارهم “مقيمين غير قانونيين”، إلا إذا كانوا يملكون تصريح إقامة أصدرته “الإدارة المدنية”، ويمكن لسكّان القطاع الذين يُضبطون في الضفة من دون تصريح كهذا، أن يتم ترحيلهم فورا إلى القطاع.
وبموجب القانون الدولي، فإن إسرائيل تُعدّ قوة محتلة بالرغم من انسحابها من قطاع غزة عام 2005، إلا أنها ما تزال تسيطر على منافذ القطاع البرية والبحرية والجوية، وتفرض عليه حصارا مشددا، وهذا لا يعفيها من مسؤوليتها، وهي تسيطر أيضا على السجل السكاني في غزة وشبكات الاتصالات والعديد من الجوانب الأخرى للحياة اليومية والبنية التحتية، وبدلا من القيام بواجبها بحماية السكان المدنيين في القطاع، وضعتهم تحت الحصار الخانق الذي يمثّل شكلا غير مسبوق من العقاب الجماعي، في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني.
Comments are closed.