جاءت الصواريخ التي أطلقت بعد ظهر يوم الخميس الماضي من جنوب لبنان في اتجاه الجليل الغربي لتؤكّد على “وحدة الساحات” بين ما يجري في المسجد الأقصى والتصعيد في غزة والجبهة اللبنانية، لكنها من جهة أخرى شكّلت مؤشّراً على شيء أبعد وأكثر عمقاً بدأ يطرأ على معادلة الردع التي كانت قائمة بين إسرائيل وحزب الله منذ حرب تموز/ يوليو 2006، وعكست، بصورة من الصور، التبدّل الذي طرأ على الوضع الجيو – استراتيجي في المنطقة، وتغير التوازنات بين القوى التي تتحكّم بقواعد اللعبة بين إسرائيل وحزب الله وحركتي حماس والجهاد الإسلامي.
ليست هذه المرّة الأولى التي تنطلق فيها صواريخ من جنوب لبنان في اتجاه المستعمرات الإسرائيلية تضامناً مع الفلسطينيين، ومع نضالهم ضد قوات الاحتلال وردّاً على الانتهاكات للمسجد الأقصى. فقد جرى هذا في مايو/ أيار 2021 خلال عملية “حارس الأسوار”. لكن الصواريخ في هذه المرّة كانت أكثر عدداً بكثير، وعلى الرغم من أنها لم توجّه إلى منشآت حساسة وأهداف عسكرية، فإنها أحدثت صدمة داخل إسرائيل، ووضعت قيادتها السياسة العسكرية أمام معضلة كيفية الرد بقوة وحزم من دون الانجرار إلى مواجهة شاملة مع حزب الله وصواريخه الدقيقة التي تغطّي أغلبية المدن في دولة الاحتلال.
ولكن ما يجري فعلاً بين حزب الله وإسرائيل ليس مرتبطاً فقط بالتعاطف مع النضال الفلسطيني ورداً على التصعيد الإسرائيلي، بل له علاقة بما يمكن أن يشكّل مرحلة جديدة في المواجهة بين الطرفين، ومحاولة الحزب اختبار ردود فعل إسرائيل على إمكانية تغيير معادلة الردع القائمة بينه وبينها، من خلال استفزازها وتحدّيها انطلاقاً من حساباتٍ دقيقةٍ وإدارة ذكية للمخاطر المترتّبة على خوض مواجهة مع إسرائيل. والسؤال اليوم: هل يخطّط حزب الله إلى إعادة تفعيل الجبهة الشمالية مع لبنان ردّا على الهجمات المتعاقبة التي تقوم بها إسرائيل في سورية ضد الحزب والوجود العسكري الإيراني والمليشيات الشيعية الموالية لإيران، ضمن إطار ما تسميها “المعركة بين الحروب”؟
يُلاحظ من يتابع ما ينشره الإسرائيليون منذ فترة اهتمامهم بالتحوّل الذي طرأ على سلوك حزب الله، أخيرا، وهم يعطون مثالاً عليه حادثة تسلّل عنصر من الحزب من جنوب لبنان إلى إسرائيل وزرعه عبوة بالقرب من بلدة مجدّو، ما أدى إلى إصابة مواطن من فلسطينيي 48 بجروح بليغة. يومها، اعتبر المسؤولون في إسرائيل الحادثة شديدة الخطورة، ودليلاً على الجرأة التي يشعر بها الحزب، أخيرا، وعلى ثقته الكبيرة بنفسه، ومؤشّراً على “تآكل” الردع الإسرائيلي في مواجهته. وفسّروا ذلك بعدة أسباب: غرق إسرائيل في أزمة داخلية حادّة جرّاء الانقسام داخل المجتمع الإسرائيلي حيال مشروع التعديلات في قوانين المؤسسات القضائية الذي بادرت إليه حكومة نتنياهو؛ انعكاسات هذه الأزمة على الجيش الإسرائيلي، سيما الجنود الاحتياطيين الذين دعوا إلى رفض الخدمة العسكرية احتجاجاً على تلك التعديلات المقترحة؛ إقالة نتنياهو وزير الدفاع في حكومته، غالانت، على خلفية تصريحات للأخير حذّر فيها من تداعيات الأزمة الداخلية على الجيش وسلاح الاحتياطيين؛ البرودة في العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل على خلفية المعارضة الأميركية تلك التعديلات القانونية المقترحة، والتي تعدّها أنها ستغيّر صورة إسرائيل دولة ديمقراطية، والمواقف الحادّة التي صدرت ضد إدارة بايدن من وزراء من اليمين القومي، مثل الوزير إيتمار بن غفير؛ التقارب السعودي الإيراني وتعاظم دور الصين في ضوء تراجع الدور الذي كانت تلعبه الولايات المتحدة في المنطقة، والذي كان دائماً يصبّ في مصلحة إسرائيل.
هذه هي الاعتبارات التي تفسّر فيها إسرائيل التبدّل الذي طرأ على مقاربة حزب الله للمواجهة مع إسرائيل، والتي من خلالها يريد أن يثبت أنه بالرغم من الأزمة الاقتصادية وحالة الانهيار التي يعانيها لبنان، ما يزال الحزب قادراً على تهديد إسرئيل وإثارة مخاوفها وقلقها، وما يزال عنصراً أساسياً ومحورياً في المواجهة بين إسرائيل وإيران في سورية بصورة خاصة.
يدير حزب الله مواجهته مع إسرائيل من خلال إدارة جيدة وذكية للمخاطر. هذا ما حدث فعلاً عندما أطلق في العام الماضي مسيّرة له في اتجاه منصة كاريش، لاستخراج الغاز التي اضطرّت إسرائيل إلى عدم الرد عليها تجنباً للدخول في مواجهة واسعة النطاق، وتعريض المفاوضات التي كان يجريها الأميركيون لترسيم الحدود البحرية مع لبنان للخطر. يومها، كان تقدير الحزب أن إسرائيل لن تردّ، واعتبره علامة ضعف، مسجّلاً نقاطاً لمصلحته ضد إسرائيل.
شكّلت حادثة التسلّل من جنوب لبنان إلى داخل أراضي شمال فلسطين المحتلة التي لم يتحمّل حزب الله مسؤوليتها استفزازاً من نوع آخر، ورفعت مستوى التحدّي مع إسرائيل التي حاولت الرد على ما حدث بصورة غير مباشرة من خلال تكثيف هجماتها ضد أهدافٍ للحزب وإيران في سورية. وجاء أخيرا إطلاق هذا العدد من الصواريخ من جنوب لبنان الذي حمّلت إسرائيل “حماس” المسؤولية عنه، وليس حزب الله، مع علمها علم اليقين أن هذا لا يمكن أن يحدُث من دون ضوء أخضر من الحزب أو علمه.
تبدو إدارة حزب الله مخاطر المواجهة مع إسرائيل ذكية وناجحة، فالردّ الإسرائيلي كما على الأرجح توقعه الحزب كان مهاجمة أهداف تابعة لحركة حماس في مخيم الرشيدية في صور من دون وقوع إصابات في الأرواح. لكن من يتابع بدقّة ما يجري داخل إسرائيل يستنتج أن المسألة لن تتوقف عند هذا الحد، وأن الإسرائيليين في صدد البحث عن ردٍّ يعيد لهم الردع في مواجهة حزب الله، ويمنعه من محاولة تغيير “قواعد اللعبة”.ر
Comments are closed.