سأُغامِر بالإجابة عن هذا السؤال بـ (نعم) كبيرة.
والسبب بسيط، وهو أنّ هذه “المصالحة” لم يكن قرارها فلسطينياً في أيّ يومٍ من الأيّام، وهذا هو السبب الأوّل.
والسبب الثاني، لأن “الانقلاب”، ثم “الانقسام”، ثم التصعيد نحو درجةٍ معيّنة من الانفصال لم يكن قراراً فلسطينياً خالصاً، وإنّما كان ــ كما تُثبت الأحداث ــ قراراً إقليمياً.
والسبب الثالث، هو أن “الانقسام” بات يتعارض بالكامل مع توجّهات “الإقليم”، ولم يعد حتى العامل الإسرائيلي نفسه بنفس درجة التأثير السابق، ناهيكم أنّ المصلحة الإسرائيلية نفسها لم تعد هي نفس المصلحة السابقة في هذا “الانقسام”.
بعيداً عن كلّ كلام “الإنشاء”، وعن كلّ الشعارات والخُطَب الرنّانة حول “أخطار” هذا “الانقسام” على المشروع الوطني، وعلى القضية الوطنية، وأهداف الشعب الفلسطيني في التحرُّر من الاحتلال، وبناء كيانه الوطني في دولةٍ وطنية، وفي فرض وإحقاق قرارات الشرعية الدولية حول حقوقه الثابتة في تقرير المصير والعودة.. بعيداً عن كلّ هذا الإنشاء حول “أخطار” “الانقسام” على هذا كلّه لم تتقدّم “المصالحة” ولا خطوة واحدة، جدّية أو حقيقية على مدى أكثر من عقدٍ ونصف العقد، بل إن كل مناسبة، وكل محاولة على هذا الصعيد كانت تعقبها معارك إعلامية تصعيدية، إمّا أثناء هذه المحاولات، أو مباشرةً بعد انتهاء هذه المحاولات نحو الفشل المُعلَن.
من حيث المظهر كانت أسباب هذا الفشل تبدو فعلاً وكأنّها اختلافات أو خلافات “جوهرية” تتعلّق بمعادلة “المقاومة” و”المساومة”. وكان يُطلق في إطار الدعاية المصاحبة لهذه المعادلة عشرات الشعارات والتوصيفات التي [تثبت] أن هذه هي معادلة الخلاف والاختلاف.
مع مرور الوقت ودخول الحالة الفلسطينية في مرحلة الارتهان الشامل والكامل من قبل طرفي معادلة “الانقسام”، وتحول “التنسيق الأمني” إلى حالة مشتركة، وقاسم مشترك كبير بينهما، وتحول العامل الاقتصادي إلى عامل مشترك جديد عَبر بوابة الاحتلال نفسه، بعد مرحلة الاقتطاعات والحصار المالي للسلطة الوطنية، وبعد مرحلة “الحقائب” الدولارية بالنسبة للوضع في قطاع غزة بدأت تتلاشى تباعاً شعارات “المقاومة والمساومة”، وأصبحت قضايا الخلاف والاختلاف تصنّف بصورة جديدة تحت بنود “المصالح الخاصة” بـ “الانقسام”، و”الامتيازات” التي بُنيت مؤسّساتياً حول هذه “الامتيازات”.
ودخل “الانقسام” مرحلة جديدة عندما تحوّل مشروع “المقاومة” إلى مشروع للسلطة في القطاع، وإلى تحوّل مشروع السلطة هناك إلى أولوية مطلقة بالمقارنة مع مشروع “المقاومة”.
لم يتبّق بلد عربي واحد، أو حتى إسلامي إلّا وحاول بصورةٍ أو بأخرى ثني أطراف هذا “الانقسام” عن المضيّ قُدُماً فيه، ووصلت الأمور إلى تدخّلات “دولية” من أجل إنهائه دون أي تقدّم يُذكر، ودون التوافق إلى ما هو أدنى من أي حدّ أدنى دون جدوى على الإطلاق.
أمّا الحالة الجماهيرية، فحدّث ولا حَرَج، فقد انبرت كل القوى على جانبيّ أطراف “الانقسام”، وبادر المجتمع المدني الفلسطيني لعشرات المرّات، والأصحّ القول لمئات المرّات، دون أن يتحقّق أيّ شيء على أرض الواقع، وأعتقد أنّ ما ذُكر وكُتب حول “أهمية” إنهاء “الانقسام”، ومحورية ومفصلية ذلك بات بالأطنان من الدراسات والأبحاث، والمصنّفات، والتوصيات، والمناشدات، والمذكّرات، وغيرها.. وغيرها من أشكال النداءات والاستغاثات، وصولاً إلى التوسُّلات دون أيّ طائل.
ظلَّ الفشل، والانتهاء إلى حالةٍ أسوأ ممّا كانت عليه في كلّ مرّة يتكرّر، لأن الاعتقاد الذي ساد حول أسباب هذا الفشل لم يكن سوى حالة فشل إضافية في رؤية الأسباب، وفي قراءة حقيقة وواقع هذا “الانقسام”.
كلّ ما كانت تجري مناقشته، ومعالجته، ومحاولة فهمه، والعمل على إصلاحه، وكلّ ما كان يتمّ “البناء” عليه أو محاولة البناء عليه لم يكن في الواقع سوى حالة فشل في قراءة هذا “الانقسام”، والغوص في تفاصيل المظهر، على حساب معرفة الجوهر.
مشروع “الانقسام” أساساً، وبصرف النظر عن كل مظاهر تردّي الحالة الوطنية، وسوء الأداء الفلسطيني، وعن كلّ مظاهر الفساد والإفساد، وعن كل المراهنات على “تسوية” هي في الواقع تسوية مستحيلة في ظلّ شروط وهيمنة المشروع الصهيوني في الاحتلال والاستيطان، بصرف النظر عن كل ذلك.. فإنّ مشروع “الانقسام” الذي نتج عن “الانقلاب”، وما سموه “الحسم العسكري” آنذاك، لم يكن في الواقع نتيجة لهذه الأسباب كلّها، وإنّما استعان بها مشروع “الانقسام” ليس إلّا، وذلك لأن المشروع كان بالأساس قراراً لحركة “الإخوان المسلمين”، ودعم حركة “الإخوان” في عموم الإقليم لـ “الانقلاب”، ثم لـ “الانقسام”، ودعم قطر وتركيا [بصرف النظر عن الشكل الخاص لهذا الدعم] لا يحتاج منّا إلى أيّ دليل، وهو ثابت وواضح ومُعلَن، ومكشوف، ولا ينفيه أحد، ولا يُنكره أحد.
حركة “الإخوان المسلمين” دخلت في مشروع “تدمير” المؤسّسة الوطنية ليس فقط في فلسطين، وإنّما دخلت في المشروع على المستوى الإقليمي الشامل، وكان “البدء” من فلسطين لأسبابٍ كثيرة، لعلّ أهمّها أن “غطاء” “المقاومة” جاهز، والأداء الفلسطيني أكثر من كافٍ على هذا الصعيد، وهشاشة الوضع الفلسطيني كافية.
تعزّز مشروع “الانقسام” بعد فشل “الإخوان” إقليمياً، وبعد أن فقدوا كلّ إمكانية لـ”بناء تحالف استراتيجي مع الولايات المتحدة” إثر هزيمتهم في مصر، ثم في باقي “الإقليم”، وخصوصاً في سورية وليبيا والسودان واليمن.
هذا هو السبب الحقيقي لـ “الانقسام”، وكلّ ما يُقال عن أسبابٍ أخرى، مهما كانت صحيحة فهي من الأسباب المساعدة، والمحفّزة، والمشجّعة، لكنّها ليست الأسباب الحقيقية.
لو كانت الأسباب التي أدّت إلى “الانقلاب”، ثم إلى “الانقسام” هي أسباب فلسطينية خالصة لأمكن التوافق على حلّها أو تجاوزها منذ أمدٍ بعيد، ولو كانت المسألة تكمن في المصالح الخاصة فقط، لأمكن اقتسامها، ولو كانت تتعلّق بمشروع “المقاومة” لكان بالإمكان التفاهم عليها بعد أن تحوّل مشروع “المقاومة” إلى مشروع “للسلطة”، ولو كان الأمر كلّه يتعلّق بالاختلاف على “التسوية” لأمكن تحديد متطلّباتها والتوافق على هذه المتطلّبات، أما الحقيقة فهي أن “الانقسام”، ومن قبله “الانقلاب” كان قراراً “إقليمياً” مدعوماً من إسرائيل، ربّما لأسبابها الخاصّة، ومسكوتا عنه دولياً ــ أقصد “غربياً”، وخصوصاً أميركياً وأوروبياً ــ.
مع “المصالحة” الإيرانية السعودية سيتحوّل “ملفّ” “الانقسام” الفلسطيني إلى “ملفّ خاص” في إطار هذه “المصالحة”، تماماً كما هو “الملفّ اليمني”، و”الملفّ السوري” و”الملفّ اللبناني” و”الملفّ العراقي” نفسه، خصوصاً وأن “حماس” قد “توغّلت” في “المحور الإيراني” في المراحل الأخيرة، وأصبحت إحدى الأذرع الخاصة في هذا المحور.
ستسمعون، أيَّتها السيّدات وأيّها السّادة كلاماً جديداً عن أهمية “رأب الصَّدع”، وعن ضرورة “الوحدة”، وعن الأهمية الاستراتيجية الخاصة بإنهاء “الانقسام” في الأشهر القادمة، وسنكتشف معاً كم كنّا مُغفّلين وساذجين ونحن نبحث عن حلولٍ لإنهاء “الانقسام”.
Comments are closed.