كتب: أكرم عطا الله
لكِ أن تبكي طويلًا وأن تبللي الأرض بالدموع إلى ان تنبت رجالًا مثل والدك.. يا حبيبتي التي لم تبدأ الحياة بعد لتصاب باليتم وانكسار الروح قبل أوانها، وقلبي معك يصاب بالعطب. أفكّر كيف ستنامين الليلة الأولى للغياب الكبير وكيف لقلبك الصغير أن يحتمل فاجعة بحجم قنبلة نووية سقطت عليه ووزعت غبارها على كل القلوب التي عرفت أباكِ.
بتول إياد الحسني ابنة الستة عشر خريفًا، يوم أن كانت تلعب في حديقتي مع ابنتي الصغيرة شام، كانتا في عامهما السادس، تشاجرت الطفلتان على لعبة، تدافعتا فسقطت بتول على حجر وكُسرت يدها. عندما عدت مازحني يزن قائلًا: أنت مطلوب للحق ابنتك ارتكبت جريمة. أخذت الأمر بجدية ولم يكن أمامي سوى الذهاب إلى أبي أنس الحسني الذي لم أكن أعرفه بعد، القصة ليست سهلة وعليّ ابلاغه جاهزيتنا كعائلة الاستجابة لكل مطالبهم أملًا أن أجد رجلًا مرنًا يمكن التفاهم معه.
طرقتُ الباب وأنا أقيس كلماتي بدقة وأحصي الحروف وأحضر نفسي لامتصاص غضب رجل كُسرت يد طفلته معشوقته، سأتركه يقول ويرفع صوته وسأردّ فقط “معك حق” هو سلاحي الوحيد لعلاج الجريمة، فتح الباب رجلًا في غاية الوسامة استقبلني كأمير يحتفي بضيوفه الكبار، مكلّلًا بابتسامة بددت كل هواجسي، قبل القهوة بدأت الحديث عن تحمّلي مسئولية ما حدث، ضحك بشدّة وأحضر بتول في حجري قائلًا يا رجل لا تتحدث في الموضوع، ولكن شكرًا أن يد بتول كسرت لتتسبب في زيارتك لنا.
أعود للذاكرة المجروحة، وجدت رجلًا كالملائكة الكبار الذين رسمنا ضورة عنهم في مخيلاتنا، شديد الأدب.. دمث بلا حدود.. مرح بلا خفّة.. يأسرك من أول رشفة قهوة.. قائدًا من الذين تتمنى الشعوب أمثاله لتنام مطمئنة على حاضرها ومستقبلها.. من الانقياء الذين لم نعد نراهم بعد أن تشوهت معايير القائد الذي يجب أن يصرخ ويأمر ويعبس بحزم وبحنجرة عالية لكن الأهم كان أبًا لا مثيل له هكذا قال أبنائي.
قلبي معك صغيرتي الحبيبة ولكن، ليت يدك لم تنكسر وليتني لم أعرف والدك لأصاب بالحزن الشديد لكان وجعي أقل قليلًا، في اليوم الأول للمعركة حاولت شام الاتصال بك لتطمئن عليك، حكمت عليكم أقدارها وخيارات الرجال أن تتركوا البيت، كان هاتفك مغلق ككل الحروب، كم تدهشتني احتياطاتك الأمنية الثقيلة على طفلة كبرت بين الألغام حتى لا يضعف حبيبك لحظة يشتاقك بها.
أتعرفين؟ كان والدك أشجع الرجال، وأكرم الرجال، وأنقى الرجال وأروع الرجال، من حقك أن تمضين العمر باكيةً.. لا تعاتبيه لأنه تركك، إن كان لك عتب لأنه كان شديد التواضع يعيش حياة الناسك في الصومعة، كان خافتًا كضوء شمعة ، هادئا كنهرٍ توقف عن الجريان.. بقي في الظلّ ولم يجعلك تفخرين أنك ابنة اياد الحسني في السابق لترقص لك الشوارع قبل أن يعانقك عائدةً من المدرسة، الآن.. ارفعي جبينك عاليًا وعانقي الشمس لأنك ابنته.
افتحي هاتفك حبيبتي فقد انتهى كل شيء، لن تفتش الطائرات فيه عن قبلة ممهورة باسم والدك المحبّ لتقصفها.. ولن تجد الصواريخ رسالة “أحبّك بابا” لتفجّر رأسك.
لو لم أعرفه لكان الوجع أقلّ قليلًا لكن وجعك يغطّينا جميعًا ويفيض على البحر واليابسة.. قلبي معك حبيبتي.. شام حزينة جدًا، لم تتوقف عن البكاء لأنها تحبّك وتحبّه.
Comments are closed.