قمة جدة ومَلِك العرب

من الضروري والمهم للعرب أن تعقد قمتهم على مستوى القادة بشكل دوري، ومن المهم أن يتلاقى المختلفون من القادة في مساحة واسعة -ضمن إطار الجامعة العربية وغيرها- قادرة على تفعيل الحوار المفقود، والتعاون المرغوب والتوحد المأمول ولو بأشكال الحد الأدنى المطلوبة.


تأتي هذه القمة في ظل حوار مفقود بين أطراف متعددة داخل عديد الدول العربية بين مكوناتها المختلفة، وتأتي في ظل أزمات وتدخلات إقليمية وعالمية واضحة في أكثر من دولة عربية، وفي ملفنا الفلسطيني، كما تأتي في ظل غيوم تخيّم على العلاقات بين (وفي) عدد من الدول العربية إضافة لتناقض أوتباين الأولويات بين مختلف الدول.

قد ينظر البعض للقمة من منظور متشائم بشكل دائم بأنها منتدى للكلمات الصدّاحة، ومساحة للحوارات منبتّة الأثر، أو مقطوعة الصلة بما سبقها، أو بما سيتلوها، مستندين للقمم السابقة بحيث تصبح قرارات القمم أثرًا بعد عين بمجرد إدارة القادة ظهورهم لمقاعدهم بالقمة وعودتهم لبلدانهم، وفي هذا مقاربة جديرة بالتنبه والحرص والمتابعة والنقد إن لم يتصل بقرارات المؤتمر على الورق قرارات وإرادة وأفعال حقيقية تُشعر البلدان والمواطن في بلده بحقيقة القيمة لنتائج هذه المؤتمرات.

أن يكون للقمة العربية فضيلة جمع العرب دوريًا فهذا شأن هام، وأن يكون لها أن تحصر الأولويات في بيان محدّد فهذا مما لا شك بأهميته، وكما يرد في النقاط الثلاثين لإعلان جدة (19/5/2023م).

نستطيع القول كقراءة أولية أن قمة جدة الحالية واحدة من أهم القمم العربية ليس لأنها حققت الاعتراف بالقيادة الليبية (وجهود اللجنة العسكرية المشتركة) في ظل قيادة تنفيذية واحدة، والحكومة الشرعية باليمن، والقيادة السودانية الرسمية، وليس بالتأكيد المتواصل بالحفاظ على استقلال دولة فلسطين واحترام المبادرة العربية، وبالتالي دفع “التتبيع” للإسرائيلي الى الخلف على عكس ما روّج له الأميركيون و”نتنياهو”. وإنما بقدرتها أيضًا على صناعة الحدث أو تكريسه وإحداث الاختراق وتجسيد الاستقلالية كما حصل في أكثر من شأن، وعلى رأسه إدخال سوريا الرسمية للجامعة العربية، والدعوة لخروج جميع القوى الأجنبية منها وغيرها من الدول، رغم عديد التحفظات من المعارضة السورية على النظام الحالي من جهة، ومن الحكومة الأميركية من جهة اخرى.

وما سوى التأكيد على استقلال البلدان العربية وتعاونها ودعمها…الخ، فإن التقدم بخطوة جماعية واسعة قد جاء واضحًا من خلال الدعوة الى “تهيئة الظروف واستثمار الفرص وتعزيز وتكريس الشراكات وترسيخ التفاهمات بين الدول العربية على أساس المصالح المشتركة، والتعاون لتحقيق مستهدفات التنمية المستدامة، وتنفيذ الرؤى التنموية الطموحة من خلال نهضة شاملة في جميع المجالات لمواكبة التطورات العالمية، وصناعة مستقبل يلبي آمال وتطلعات الشعوب العربية” كما جاء في نص الإعلان، ما سيمثل قفزة حقيقية عظيمة ونوعية نحو بناء جسم عربي وحدوي المصالح ضمن المعايير المذكورة إن قيّض لهذه التهيئة والاستثمار والتكريس والترسيخ والمصالح والتعاون والرؤى أن ترتبط بالقيم الجامعة المشتركة لحضارتنا وأمتنا، وبإرادة قيادة نافذة صادقة -إن وجدت- تجعلها قيد التنفيذ فتظهر الأمة بحقيقة وجهها المشرق.

فيما يتعلق بقضيتنا الرئيسة أي بالقضية العربية-الفلسطينية فإن الاهتمام بها لم يشذَ عما حصل سابقًا من قمم سابقة وهذا أمرٌ حسن، إلا أن طبيعة القرارات –كما نؤكد-تظلّ منقوصة مادام الدعم المادي للقضية قد توقف منذ سنوات مضت ولم يُستعاد حتى حينه.

الى ما سبق استطاعت قمة جدة أن تثبت أن المملكة العربية السعودية تمثل قوة إقليمية حقيقية، وذات مقدرة عالمية لا يمكن القفز عنها. لاسيما وسياستها غير التابعة، بل المستقلة وكان هذا واضحًا بالاتفاق السعودي- الإيراني من جهة، ودعمه بالإعلان. وفي العلاقات المتطورة مع الصين “التنين الناهض” ليحطم الانفراد الأميركي بالعالم، وفي القدرة على تحقيق التوازن بالمشاكل العالمية من خلال ما بدا من دعوة الرئيس الأوكراني لحضور القمة، وبقراءة كلمة الرئيس الروسي داخل القمة.

استطاعت القمة أن تحقق التجاوز الفعلي لكل الاعتراضات الأميركية حول شخص سمو الأمير محمد بن سلمان الذي تم تنصيبه من العرب ملكًا عليهم للمرة الأولى وعلنًا في عهد الحكم الاميركي الديمقراطي المناوئ، وللمرة الثانية بعد عهد “ترامب”.

إن الجملة ذات العمق لولي العهد السعودي والتي تثبت الرغبة في إعطاء القمم قيمتها العروبية الجامعة والتي تكرست في بيان جدة، تجلت من خلال خاتمته الهامة حين قال “إن وطننا العربي يملك من المقومات الحضارية والثقافية، والموارد البشرية والطبيعية، ما يؤهله لتبوء مكانة متقدمة وقيادية، وتحقيق نهضة شاملة لدولنا وشعوبنا في جميع المجالات.”
استطاعت السعودية وعلى رأسها ولي العهد محمد بن سلمان أن ترسل رسائل عدة لكافة الدول أن السعودية ملكة العرب بسياستها المستقلة، والجامعة للامة، لن تكون قابلة للابتزاز أو “للحلب” بعد الآن، كما الحال في ظل النظرة القاصرة من عديد الدول الغربية وأميركا، وربما بعض الدول العربية أيضًا، بل أن المصالح المتبادلة “والمقومات الحضارية” هي الحكم الأول والأخير في قرارات المملكة.

Comments are closed.