نهاد ابو غوش
تمكنت إسرائيل من “تمرير” مسيرة الأعلام الاستفزازية العنصرية، بعد أن استنفرت كافة منظومات دفاعاتها الجوية وجيشها وأجهزتها الأمنية، ونشرت الآلاف من أفراد شرطتها العلنية والسرية لتأمين المسيرة، لكن ذلك لم يكن ممكنا لولا فَرْض الأطواق المشددة حول القدس، ومنع عموم الفلسطينيين من وصول المدينة، وفرض الإغلاق التام على المحلات التجارية التي مرت مسيرة الكراهية والبغضاء بجانبها. وعلى الرغم من رسائل الثقة المزعومة بالنفس وادعاء المسؤولين الإسرائيليين بأن المسيرة جسّدت وحدة المدينة ورمزيتها للمحتلين باعتبارها عاصمة أبدية لدولة إسرائيل، فإن في طريقة إدارة هذه المسيرة والتوتر الذي صاحبها ودفع أطرافا دولية عديدة للتدخل وإبداء قلقها ومخاطبة الأطراف بضرورة ضبط النفس، ثم في استنكار الشعارات الشوفينية والعنصرية، وانتقاد مشاركة وزراء وأعضاء كنيست ومسؤولين في كل ذلك ما يؤكد أن المسيرة التي أوقفت إسرائيل على أعصابها، جلبت نتائج معاكسة تماما لما أراد لها مخططوها ومنفذوها والمسؤولون الحكوميون الذين سمحوا بها.
لم يكن بالإمكان إذن القيام بتجميع هذا الحشد الكبير، الذي غلبت عليه تركيبة من صبيان المستوطنين وشبيبة التلال وجماعات الصهيونية الدينية من المتطرفين والمهووسين دينيا وقوميا، بدون حشد كل تلك القوة العسكرية الغاشمة. يكفي أن نقارن بين هذا الحشد الذي لا يُتقن سوى إطلاق الشتائم وشعارات “الموت للعرب” وأغنية “أحرقوا قريتهم”، وبين الحشد الطوعي لمئات الألوف الذي يقوم به الفلسطينيون في كل أيام الجمع في رمضان فيحضرون للقدس والمسجد الأقصى من كل فج عميق مُتَحدّين كلَّ العوائق والجدران وقرارات المنع والأطواق، ليرسموا بعد ذلك لوحة إيمانية ووطنية رائعة يصل صداها ودلالات رسالتها البليغة إلى كل أصقاع الأرض.
هي إذن تظاهرة للقوة والعنف الفاشي والرغبة في محو الآخر العربي الفلسطيني، لكن خطرها لا يقتصر على مجرياتها في ذكرى احتلال القدس، إنما في كونها جزءا من الهجمة الشاملة التي تشنها حكومة اليمين واليمين الفاشي المتطرف على كل ما هو فلسطيني بهدف تصفية القضية الوطنية وحسم الصراع لتحقيق الأهداف التوسعية الإسرائيلية، والتنكر لحقوق الفلسطينيين السياسية والتي تتلخص في حقهم بان يعيشوا بحرية وكرامة على أرض وطنهم .
يمثل هدف تهويد القدس وفصلها عن محيطها الفلسطيني الحلقة المركزية لهذا المشروع التصفوي، فإلى الأهمية الدينية لمدينة القدس ومقدساتها التي تحتل مكانة مميزة في وجدان وقلوب مليارات المسلمين والمسيحيين على امتداد العالم ، فإن انتزاع القدس من الفلسطينيين وتهويدها هو بمثابة انتزاع الروح من الجسد الفلسطيني، وحرمان الفلسطينيين من أهم علامات هويتهم الوطنية وتراثهم الحضاري، وتحويلهم من شعب ذي حقوق وطنية إلى مجرد تجمعات سكانية متناثرة لكل منها همومه المعيشية الخاصة به والمنفصلة عن هموم التجمعات الأخرى.
وإذا كانت الهجمة على كل تجمعات الشعب الفلسطيني في غزة وجنين ونابلس تتخذ طابعا وحشيا عنوانه القتل والتدمير والاغتيالات والاعتقالات، فإن الهجمة على القدس تتخذ طابعا شاملا يشمل الأدوات الإجرامية عينها، إلى جانب سياسات التهويد والتطهير العرقي، والإغراق الاستيطاني والإحلال، ومحاولات تغيير طابع المدينة وهويتها التاريخية، وأسرلة التعليم، وتغيير أسماء الأماكن والمعالم، ومنع أي مظهر من مظاهر الحضور الفلسطيني حتى في الميادين الاجتماعية والثقافية والرياضية والخيرية، والقيود المشددة على السكن والإقامة وتسجيل المواليد وجمع شمل العائلات، والضرائب الباهظة على السكن وعلى المحلات التجارية والمهن، وتغيير شبكة المواصلات لتخدم الوحدة القسرية لشطري المدينة بدل خدمة حاجات التواصل الطبيعي بين المواطنين، والتضييق على المؤسسات الوطنية الصحية والتعليمية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. وقد باشرت إسرائيل بهذه الإجراءات بقرار ضم المدينة في حزيران عام 1967، بعد ثلاثة أسابيع فقط من الاحتلال.
لا ينبغي فصل معركة القدس عن باقي الحلقات والمعارك التي يخوضها الشعب الفلسطيني، ولا افتراض أن شكلا نضاليا معينا هو الكفيل بمنع مسيرة الأعلام وحماية القدس من التهويد مثلما انتشر مؤخرا وكأن صواريخ المقاومة في غزة هي وحدها القادرة على منع مسيرة الأعلام، فهذه المقولة تنطوي على كثير من المبالغة وخداع الذات، فقوة المقاومة لا تكمن في التوازن المادي، وما لديها من أسلحة وعتاد وقدرتها على إيقاع الخسائر في المحتلين، وإنما في ما تمثله من إرادة للقتال وقدرة على الصمود والتضحية واحتمال الضربات الأليمة والتمسك بالحقوق على الرغم من حجم المعاناة والتضحيات، وفي المقابل تبدو كل ترسانة الاحتلال الهائلة عاجزة عن فرض إملاءاته وشروطه السياسية على الشعب الفلسطيني، فهناك دائما حدود للقوة المادية بينما لا توجد للتضحية والفداء والإرادة الإنسانية حدود.
من المهم جدا أن تتكامل حلقات النضال الفلسطيني وأشكاله ليعزز بعضها بعضا، لا أن يكون أحدها بديلا عن الآخر، ولنتذكر دائما أن العبء الرئيسي في الدفاع عن القدس وهويتها وانتمائها يقع على المقدسيين أولا، الذين يدافعون عن مدينتهم وعاصمة شعبهم بصدورهم العارية وأجسادهم من خلال أشكال الرباط والاعتكاف والفعاليات الشعبية التي طوروها إلى جانب فعاليات “شد الرحال” التي أبدع فيها فلسطينيو الداخل، بهذه الأشكال الفذة خيضت معارك البوابات الاليكترونية وباب الرحمة وباب العامود والشيخ جراح وأمكن تحقيق نتائج مهمة فيها.
معركة القدس لا تُخاض من خلال الاكتفاء بتمجيد صمود المقدسيين وتشجيعهم من بعيد، بل لا بد من دعم صمودهم الواقعي والمادي من خلال دعم المؤسسات والمستشفيات والتجارة والمدارس والأندية والجمعيات والإسكان، ومشاريع التوظيف، وابتداع وسائل للتغلب على القيود التي فرضها الاحتلال على السلطة والمؤسسات العربية والدولية للاستثمار والتنمية في القدس. وإلى جانب كل ذلك ينبغي أن تعود القدس إلى صدارة البرنامج الوطني الفلسطيني لكل الهيئات والمؤسسات والفصائل والاتحادات الشعبية (معظمها نقل مقراته إلى خارج القدس)، وأن تتكامل كل أشكال النضال وتتحد في مجرى واحد يمكن من استثمار تضحيات شعبنا وصموده، لكل ذلك نقول: صحيح أن الصواريخ مهمة ولكن ليس بالصواريخ وحدها نمنع تهويد القدس!
Comments are closed.