تواصل الإدارة الأميركية إصدار المواقف الكلامية التي لا تساوي مليما أحمرَ واحدا إزاء الهجمة الشاملة التي تشنها أدوات الاحتلال كافة من جيش ومستوطنين ومؤسسات الدولة الأخرى على كل ما هو فلسطيني: أرضا وإنسانا ومقدسات وموارد وسلطة وشعبا وحقوقا وطنية.
فالولايات المتحدة تواصل إطلاق كلام عام مبهم يساوي بين المجرم والضحية، وتدعو لضبط النفس، والكف عن التحريض، وتعتبر أن الهجوم الاستيطاني الواسع مجرد عقبة أخرى، وأقصى ما تقوله واشنطن أنها ” لاتدعم التوسع الاستيطاني”، وهي تركز خطابها على أعراض المشكلة، دون جوهرها الواضح وهو الاحتلال وخطته المعلنة لحسم الصراع مع الفلسطينيين بتصفية قضيتهم وشطب حقوقهم الوطنية والإنسانية، وجعل الاحتلال سقفا لطموحاتهم.
وتحجم الإدارة الأميركية عن اتخاذ أية خطوات عملية للجم إسرائيل ومنعها من مواصلة جرائمها ضد الفلسطينيين، بل على العكس تواصل انحيازها العملي لإسرائيل من خلال إغداق مختلف أشكال الدعم المالي والعسكري والسياسي، ومواصلة تغطية مواقف دولة الاحتلال في الأمم المتحدة ومنع استصدار اي قرار أممي لإدانتها أو معاقبتها. وها هي تقوم مؤخرا بإصدار مذكرة تدين التفويض الممنوح للجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة بذريعة أنها تركز جهودها على إسرائيل دون غيرها من الدول، وتجمع عليها تواقيع 26 دولة أخرى.
تدعي الإدارات الأميركية أنها لا يمكنها الضغط على إسرائيل، ولكنها ليست صادقة في ذلك لأنها تضغط فعليا حين يرتبط الأمر بالمصالح، وقد سبق لها أن ضغطت على إسرائيل لدفعها إلى قبول منطلقات مؤتمر مدريد، وعمدت إلى تجميد ضمانات القروض لإسرائيل، كما ضغطت على نتنياهو مؤخرا لوقف إجراءات حكومته للانقلاب على القضاء لأنها أدركت أن هذا التوجه يمس في النهاية مكانة إسرائيل ويحرج واشنطن في مواصلة دعمها، كما أن الانقلاب القضائي يهدد مستقبل التعاون الأمني والعسكري بين الولايات المتحدة وإسرائيل.
تستطيع الولايات المتحدة، إن أرادت، ممارسة الضغط الجدي على إسرائيل ومع هذا الانفلات الإجرامي للجيش والمستوطنين، وهي إذا لم تفعل ذلك الآن فلن تفعله في الغد القريب مع اقتراب موعد الانتخابات الداخلية الحزبية تمهيدا للانتخابات الأميركية العامة التي ستجري في نوفمبر 2024، ومعروف أنه في عام الانتخابات يخفت اهتمام الإدارة الأميركية بالقضايا الدولية وبخاصة قضيتنا الفلسطينية بسبب خشيتها من الصدام مع مراكز الضغط واللوبيات الداعمة لإسرائيل.
لا يرتبط الموقف الأميركي الممالئ لإسرائيل بتوفر المعلومات عما يجري أو بغيابها، ولا بقدرتنا على شرح قضيتنا بلغة انجليزية جيدة أو بحملة علاقات عامة، فالمعلومات متاحة وموجودة بوفرة لمن يريد، ومؤسسات الحكم والإدارة في الولايات المتحدة تتابع أدق تفاصيل ما يجري في العالم كله وليس في منطقتنا فحسب، والأمر يرتبط أولا وأخيرا بالمصالح الاستراتيجية لهذه القوة العظمى التي تدعم إسرائيل من دون شروط لأن دولة الاحتلال تلعب دورا وظيفيا في خدمة المصالح الكونية للولايات المتحدة وحلفائها. ومن ملامح هذا الدور المعروفة التصدي لأي دولة أو نظام يحاول أن يشتق لنفسه طريقا مستقلا للتنمية والتطور بمعزل عن الهيمنة الأميركية والتقسيم الدولي للعمل والأسواق والمواد الخام، وتلعب إسرائيل كذلك دورا مركزيا في حماية وتسليح الأنظمة الاستبدادية والفاسدة والعنصرية، كما تعد إسرائيل أكبر مختبر فعلي لتجريب الأسلحة في العالم من خلال الحملات العسكرية والحروب التي لا تتوقف أبدا وهي بذلك تقدم خدمات لا تقدر بثمن لمجمعات صناعة السلاح الأميركية.
إذن لا بد من مخاطبة الولايات المتحدة من بوابة مصالحها، وهو أمر ممكن وواقعي وليس ضربا من الخيال، والسؤال المفتاحي الذي يُمكّن من تطوير الموقف الفلسطيني والعربي والدولي بهذا الاتجاه هو: هل القضية الفلسطينية ومستقبل القدس والمسجد الأقصى تخص الفلسطينيين وحدهم أم أنها تعني العرب والمسلمين والمسيحيين وبالتالي تهم السلم والاستقرار الدوليين؟ وبالمثل، هل الهجوم على القرى الفلسطينية واستباحتها بالقتل والحرائق كما جرى في حوارة وترمسعيا يخص أهالي هذه القرى المدافعين عن منازلهم وأبنائهم وحدهم أم يخص الفلسطينيين جميعا، سلطة وفصائل ومؤسسات وضفة وغزة وداخل وشتات؟
يستطيع الفلسطينيون أن يقلبوا المعادلة إذا نحّوا خلافاتهم جانبا، وتبنوا برنامجا عمليا جوهره التوحد في الدفاع عن الأرض والأهل والمقدسات. أية دعوات لمؤسسات السلطة للانخراط الآن وفي هذه المرحلة في معركة مسلحة مع جيش الاحتلال هي ضرب من الوهم وكلام لا يكلف صاحبه شيئا، ومثل ذلك الدعوة لتوزيع السلاح على الناس فالسلاح موجود بكثرة والغائب هو القرار والاستعداد لتحمل كلفته، ولكن ماذا عن منتسبي الأجهزة الأمنية وعددهم يفوق 45 ألف رجل تحت السلاح، معظمهم شباب وكلهم مدربون ولديهم خبرات عسكرية وإدارية مميزة، ما الذي يمنع هؤلاء جميعا من الانخراط في لجان الحراسة الوطنية وفعاليات مواجهة انفلات الجيش والمستوطنين؟ الرئيس محمود عباس اعتبر مقاومة هجمات المستوطنين عملا مشروعا، وغيره من المسؤولين دعوا للمشاركة في تشكيل لجان الحراسة، فلماذا لا تُبنى على ذلك خطط عملية فورية وملموسة.
يستقوي الجيش والمستوطنون على الشبان المقاومين وعلى أطراف القرى القريبة من المستوطنات ومعسكرات الجيش حين يعلمون أنهم قادرون على الاستفراد بضحاياهم، وأن مثل هذه الهجمات لن تكلفهم شيئا، لكن حساباتهم سوف تتغير حين يدركون أن كل الفلسطينيين سوف يتحدون في مواجهتهم، وأن شباب الأجهزة الأمنية لن يقفوا مكتوفي الأيدي حين يشاهدون شعبهم يذبح، وقراهم وبلداتهم تستباح.
الموقف الفلسطيني الموحد على الصمود والتصدي سيدفع العالم كله لتغيير حساباته، وسيسهم في إعادة بناء الموقف العربي بما يعزز الموقف الفلسطيني ويدعمه، وإذا كان الأردن وفلسطين تمكنا سابقا من الوقوف في وجه صفقة القرن على الرغم من كل الضغط الذي تعرضا له، وكذلك تمكنت السعودية من رفض المطالب الأميركية بزيادة انتاج النفط وخفض أسعاره، فإن العرب يمكنهم توحيد مواقفهم ومخاطبة الإدارة الأميركية من بوابة مصالحها، لأن القدس ومستقبل المنطقة وكرامة شعوبها ليست أقل أهمية لشعوب العرب والمسلمين والمسيحيين من أسعار النفط.
Comments are closed.