كتب: عبد الغني سلامة
لدينا في الفضاء الفلسطيني شبكة إعلامية هائلة وممتدة، يطال تأثيرها كل فرد، وتدخل كل بيت، وربما أكثرها حضوراً مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت المتنوعة. ولأن هذا الموضوع شائك وطويل سنتركه جانباً، ولنأخذ بداية الإعلام المرئي؛ حيث لدينا إعلام رسمي (إذاعة وتلفزيون فلسطين) وعدد كبير من المحطات الحزبية وشبه المستقلة.
ولو بدأنا بتلفزيون فلسطين، والذي يتوجب من باب الموضوعية أن نشيد بدوره الوطني في فضح جرائم الاحتلال، وتقديم الرواية الفلسطينية، ومتابعة كل ما يتعلق بقضايا الصراع وأخبار المواجهات، عبر شبكة مراسلين متواجدين دوماً في الميدان، ويعرضون حياتهم للخطر، وحين يقدمون تقاريرهم الإخبارية تشعر وكأنهم مقاتلون (وهذه يحسبها البعض حسنة، وآخرون يرونها غير مهنية)، وحيث أنه يعطي الأولوية دوماً لخبر الشهيد، ويفرد مساحات جيدة لقضايا الأسرى، مع التذكير بأن مقرات تلفزيون فلسطين قصفها ودمرها الاحتلال أكثر من مرة.
وفي المقابل، نرى ضعفه في مواكبة الأحداث الساخنة، مقارنة بفضائيات كبيرة ومتخصصة، فمثلاً قد يبدأ قصف على غزة أثناء عرضه مسلسلاً، أو تقديمه لبرامج ترفيهية فيتأخر عن تغطية الحدث، علماً أن تلفزيون فلسطين لم ينجح في حسم أمره بأن يكون ترفيهياً وطبيعياً كسائر المحطات فيقدم أفلاماً وأغاني وفقرات خفيفة، أو يتحول إلى محطة إخبارية وجادة فقط.
المسألة الأخرى، أن الرأي العام المحلي يكاد يتفق على أنه لا يمثل الكل الفلسطيني، فهو لا يستضيف أحداً من المعارضة، ولا يقدم وجهة النظر الأخرى، ولا يأتي على ذكر أي منقصة أو سلبية تتعلق بالسلطة، ولا يوجه أي انتقاد لأي مسؤول، مكتفياً بعرض رؤية السلطة وتوجهاتها، فيبدو كسائر الإعلام الرسمي المتخلف في دول العالم الثالث، الذي يدور حول فلك السلطة مسبحاً بحمدها، مستعرضاً إنجازاتها الفظيعة. بل إنه يتجاهل أحداثاً مهمة لأن ذِكرها لا يخدم توجهات السلطة، أو يحرجها، وكأنَّ عدم ذكر تلك الأحداث يعني أنها لم تقع! وأنَّ الناس لن تعرف بها من الإنترنت مثلاً! وهذا السلوك المفتقد للذكاء أحد أهم أسباب عزوف الناس عن متابعة الإعلام الرسمي، وسبب في ضرب مصداقيته ومهنيته.
وهذه الظاهرة السلبية تجدها أكثر وضوحاً في بقية المحطات الحزبية؛ فتلفزيون الأقصى مثلاً ناطقٌ باسم «حماس»، وكأنَّ «حماس» كل فلسطين! وليته توقف عند مديح حزبه، فهو لا يكف عن بث أي خبر يسيء للسلطة ولـ»فتح»، حتى لو كان الخبر مفبركاً، أو مبالغاً فيه، أو مقدماً بطريقة فجة ومسيئة ومثيرة للفتنة.. بالشكل الذي يثبت الانقسام ويكرسه.
الشيء ذاته ولكن بصورة أقل ينسحب على قناة فلسطين اليوم، الناطقة باسم «الجهاد»، ومهمة هاتين المحطتين بث رسالة ضمنية مفادها أن «حماس» و»الجهاد» وحدهما من يمثل المقاومة، وفلسطين، وشعبها وقضيتها، ويحتكرها، وبالتالي أي انتقاد يوجه لهما سيعني انتقاداً للمقاومة والنضال الوطني والشعب الفلسطيني! وفي حقيقة الأمر تلك المحطات ليست أكثر من محطات حزبية، وإعلام موجه، ومؤدلج، تقدم وجهة نطرة أحادية، تكاد تفتقر للمهنية والموضوعية، وتتصرف وكأنّ تاريخ الكفاح الفلسطيني بدأ معها فقط! وأن الشعب بلا ذاكرة وطنية! (لا أطالبها بالحياد، لأن الإعلام لا يمكن أن يكون محايداً).
وبالنسبة لوكالات الأنباء، وأولها «وفا»، بصفتها الرسمية، وباعتبارها المصدر الرئيس للأخبار، فهي أيضاً ناطقة باسم السلطة، وتمارس الخطأ ذاته في حجب الأخبار التي لا تتوافق مع هواها، أما بقية الوكالات فمن أبرز أخطائها نقل وتداول الخبر بصيغته الأولى ودون أي جهد أو إضافة، بما في ذلك الأخطاء الإملائية واللغوية.
لنأتي إلى الإعلام المسموع، حيث لدينا عشرات المحطات الإذاعية المحلية، وهي بالإضافة إلى سلبيات الإعلام المرئي التي ذكرناها والتي تكاد تنطبق عليها، يمكن إضافة سلبيات أخرى. عموماً محطات الراديو «مريحة راسها» من الشأن السياسي، باستثناء إذاعة فلسطين، وبعض الإذاعات الأخرى (نساء إف أم، أجيال مثلاً) التي تقدم برامح حوارية وفقرات هادفة ومتخصصة في العديد من القضايا المجتمعية والثقافية والحقوقية.. وتستضيف من حين إلى آخر مثقفين وإعلاميين ومحللين سياسيين. المشكلة أن المذيعين في معظم المحطات (وأكثرهم ذوو ثقافة متواضعة) حين يجرون مقابلة ما لا يكلفون أنفسهم عناء التحضير والتجهيز، فيرتجلون أسئلة باهتة، ومكررة، وتشعر وكأنهم لا يعرفون شيئاً عن الضيف الذي يحاورونه، ولا يعرفون شيئاً حتى عن موضوع الحوار.
وبما أن أغلب المحطات تركز على البرامج الترفيهية والخفيفة وتقديم الأغاني، وهذا ليس خطأً، فمن بين أبرز واجبات الإعلام الترفيه والتسلية، المشكلة أنها في هذا الغرض فشلت تماماً في تقديم مادة مشوقة وممتعة ومفيدة. وحين أتجول بين الإذاعات باحثاً عن أغنية جميلة أشعر بالحنق، وكأنَّ القائمين على تلك الإذاعات يشترون الأغاني بالمال، فيسترخصون ويختارون أبخسها: مطربون لم نسمع بهم، وأغان بلا طعم ولا نكهة، أقل ما يُقال عنها إنها تهبط بالذوق العام.
بعض الإذاعات لشدة كسلها تضع أسطوانات جاهزة وتكررها يومياً، نفس الأغاني، ونفس الكلام، وبنفس الترتيب، دون أي لمسة إبداع، ودون أي جهد! والأكثر مللاً تكرار الدعايات بصورة فجة ومبالغ فيها، وبتقنيات فنية متواضعة جداً.
لدينا عشرات الإعلاميين المبدعين والرائعين، والذين حققوا نجاحات مميزة، وشهرة واسعة تجاوزت حدود الإقليم بكثير. أغلبهم بدأ من تلفزيون وإذاعة فلسطين، ومن بعض المحطات الأخرى، لكنهم وجدوا فرصتهم ومكانتهم في الخارج، حيث الفضاء المفتوح، والإمكانيات، والتطور في التقنيات. نفتخر بهم، لكن هذا لا يكفي، الأهم كيف نحافظ على الموجودين، وكيف نرتق بإعلامنا، مهنياً ووطنياً وتقنياً.. وكيف نتحرر من عقلية الإعلام الحزبي المغلق، والذي بات من مخلفات الحرب الباردة، في هذا الزمن الجديد، والذي يشكل الإعلام فيه محوراً رئيساً يتغلغل في كافة تفاصيل حياتنا، ويعيد صياغة وتشكيل وعينا، وشخصية الأجيال الطالعة. وحيث لا يمكن كتمان أي خبر، أو التستر على أي فضيحة، ولا تبرير أي خطيئة.
لذا فإن أهم وأفضل ما يمكن فعله الآن، هو تحرير الإعلام من المتملقين والسحيجة، ومن المؤدلجين الحزبيّين والدوغمائيّين والشعبويّين.
Comments are closed.