كتب: عبد الغني سلامة
لو ألقينا نظرة سريعة على القادة والزعماء خلال القرن العشرين الذين أسهموا في تغيير العالم (سواء أحببناهم، أم لا)، سنجد متوسط أعمارهم ما بين الستين والثمانين عاماً، على سبيل المثال: المهاتما غاندي، مانديلا، كاسترو، ياسر عرفات، جواهر نهرو، جوزيف تيتو، سلفادور أليندي، أنديرا غاندي، شارل ديغول.
ولو ألقينا نظرة على متوسط أعمار رؤساء أهم الدول في الوقت الحالي، سنجد متوسط أعمارهم أيضاً بين الستين والثمانين عاماً. الولايات المتحدة، روسيا، الصين، الهند، تركيا، اليابان، البرازيل، جنوب أفريقيا، المكسيك، إيران، الأرجنتين، كوريا الجنوبية.
طبعاً لم أذكر رؤساء الدول العربية لأن هذا الموضوع خارج سياق المقال، ولكن بالتأكيد لاحظتم عدم ذكر أي دولة أوروبية، فبعد رحيل شيراك، ومغادرة ميركل السلطة ظهر جيل جديد من القيادات الأوروبية الشابة (رؤساء حكومات ووزراء) متوسط أعمارهم بين 30 إلى 45 عاماً.
فمثلاً رؤساء كل من فرنسا، بريطانيا، إيرلندا، الدنمارك، فنلندا، أستونيا، ليتوانيا، سلوفاكيا، قبرص، مالطا، لوكسمبورغ، أوكرانيا.. جميعهم عندما تولوا السلطة كانوا أقل من 45 عاماً، حتى رئيس المجر الحالي وهو في الستينيات من عمره الآن، لكنه في السلطة للولاية الرابعة على التوالي، أي أنه كان في الأربعينيات حين استلمها.
السؤال المطروح: كيف نفهم ظاهرة القيادات الشابة في أوروبا بالتحديد (يُضاف إليها كندا ونيوزيلندا)؟ ولماذا كان رؤساء دول أوروبا حتى أمد قريب جداً بمتوسط أعمار يتناسب مع المتوسط العالمي أي بحدود الستين، ثم فجأة بدأنا نلحظ وصول رؤساء حكومة ووزراء وقادة أحزاب ونواب في سن الثلاثين عاماً؟! وما دلالات ذلك؟
سنجد الجواب في سياسات تلك الدول، وتمحورها في الفلك الأميركي، وخضوعها للسياسات الأميركية، وأبرز دليل على ذلك موقفها من الحرب الروسية الأوكرانية، وهي الحرب الأولى في التاريخ التي لم يجتمع من أجلها مجلس الأمن لإصدار قرار وقف إطلاق النار، ولم تبدِ أي دولة محاولة جدية ولا حتى شكلية لوقفها، ولم تظهر أي وساطة لحل النزاع والتوصل لحل سلمي! لأنّ أميركا تريد لهذه الحرب أن تستمر، ولأن روسيا أيضاً تريدها أن تستمر.
روسيا تريد إحداث تغيير جذري في بنية النظام العالمي وفي تحالفاته وتكتلاته الاقتصادية، وهذا الأمر يحتاج قوة تمتلك طول نفَس، وإنضاجاً على نار هادئة، بما في ذلك استنزاف قدرات أوروبا.. ولحد الآن يبدو أنها قادرة على ذلك.
أميركا تريد استمرار الحرب لهزيمة روسيا والصين معاً، ولإبقاء هيمنتها على النظام الدولي.. وهذا يتطلب وقوف أوروبا إلى جانبها.
أي أن أميركا تستنزف قدرات أوروبا، وتجبرها على اتخاذ مواقف سياسية ضد مصالحها القومية والاقتصادية.. وكذلك تفعل أوروبا بأوكرانيا.. الجميع يمدها بالسلاح والعتاد والمال بحجة حمايتها من الغزو الروسي، ولا أحد يفكر بمصلحة أوكرانيا الحقيقية. الجميع (وأولهم رئيس أوكرانيا) ضحى بأوكرانيا نفسها، وبحاضر ومستقبل الشعب الأوكراني، لمصلحة حلف الناتو.
والسبب أن رؤساء مثل زيلينسكي وغيرهم من قادة الدول الأوروبية التي ذكرتها تم إعدادهم لهذا الغرض، أي ليكونوا مجرد بيادق يحركها حلف الناتو.. وقد تم ذلك على مهل، فقد جرى إعدادهم بعناية، وإرسالهم في رحلات دراسية إلى واشنطن، ودعمهم من قبل المخابرات الأميركية، وبتوصيات من مراكز أبحاث متخصصة ومن منظمات دولية وأباطرة رأس المال، وجرى دعمهم إعلامياً وتسهيل مهمة وصولهم للسلطة، وهم في هذا السن المبكرة. والغرض من ذلك كله إدامة احتلال حلف الأطلسي لأوروبا، وهذا المشروع بدأ بخطة «مارشال» في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وتتم إدامته عبر التخويف من الخطر السوفياتي، ثم من الخطر الروسي، أو الصيني.. والإبقاء على القواعد الأميركية، وعلى علاقة التبعية والخضوع لأميركا، وأخيراً عبر تنصيب رؤساء وقادة بمعرفة وتدبير وكالة المخابرات المركزية.
وتحت شعارات «القيادات الشابة»، و»التجديد»، و»تمكين المرأة»، و»المساواة»، يتم اختيار شبان متميزين وأذكياء وطموحين ممّن درسوا في جامعات معينة، ويتم تدريبهم في مؤسسات خاصة، وفتح الطرق أمامهم لوصولهم أعلى المناصب.. ولتلميع هذه الظاهرة، وجعلها جذابة وعصرية وذات مصداقية، يتم الترويج إعلامياً لمسلكيات محببة تظهر تواضعهم ونزاهتهم، مثل ركوب الدراجة، أو مصافحة المواطنين، واستخدام المواصلات العامة، والوقوف في الطابور.. أو الترويج لسقطات بسيطة يقع فيها بعض أولئك القادة، مثل استقالة وزيرة بعد تعرضها لحملات إعلامية بسبب استخدامها بطاقة فيزا خاصة بعملها، أو حملة إعلامية ضد وزير لأنه يستخدم ماكينة قهوة باهظة الثمن في مكتبه على حساب دافعي الضرائب (علماً أن ثمنها 500$)، أو حملة ضد رئيس حكومة لأنه ارتكب مخالفة مرورية.. وهكذا..
مع أننا نتمنى انتقال هذه العدوى الجميلة لبلداننا العربية؛ لنتعلم منها معنى الوظيفة الرسمية وحقوق المواطنة، وكيفية المعارضة، وأسس النزاهة والشفافية.. لكن بيت القصيد يكمن وراء تلك «النزاهة»، والمصائب كلها خلف مسمى «القيادات الشابة».. فبينما ننشغل بمخالفة المرور وبطاقة الفيزا وماكينة القهوة.. ننسى تسويق القيادات «الشابة» لسياسات الولايات المتحدة، وتنفيذهم إملاءاتها حرفياً حتى لو كان ذلك على حساب بلدانهم، وعلى حساب حاضر أوروبا ومستقبلها، وضد مصلحتها كلياً.
المسألة باختصار استمرارية هيمنة حلف الناتو على أوروبا، والحيلولة دون استقلالها سياسياً، واستخدامها في الحرب ضد روسيا، وفي الحرب الاقتصادية مع الصين، وبما يشمل أيضاً مواقف أوروبا في كل ما يتعلق بالصراع العربي الصهيوني وبمكانة إسرائيل بالنسبة لأميركا، وموقعها المصان في الإقليم، بما يضمن بقاءها، واستمرار تفوّقها، ودليل ذلك التحولات السلبية في الموقف الأوروبي مؤخراً، والمعايير المزدوجة التي تستخدمها أوروبا في النظر للقضية الفلسطينية، ونفاقها لأميركا ولإسرائيل والذي وصل حداً مقزّزاً.
في المقال التالي نستكمل دلالات أعمار القيادات في سياقات أخرى.
Comments are closed.