في القدس والتعليم والهوية

بقلم: الدكتور عماد عفيف الخطيب

للتعليم في السردية الوطنية الفلسطينية دور مفصلي في محطات تاريخية أكد فيها الفلسطينيون حقهم في حفظ روايتهم وتأكيد هويتهم. فقد ثار الفلسطينيون على سياسة “إدارة المعارف” خلال الإنتداب البريطاني بسبب قلة الصفوف في المؤسسات التعليمية، وضعف ميزانيات التعليم في الميزانية الحكومية الإنتدابية، أمام زيادة الطلب على التعليم من الفلسطينين. وواجهوا هذه السياسية بإنشائهم للجان المعارف في أنحاء فلسطين كي تقوم بجمع التبرعات لبناء المدارس ولتوفير مساعدات مالية للطلاب الفقراء ولتأهيل المعلمين. أظهرت وثائق الإنتداب البريطاني أن الفلسطينين تمكنوا خلال الفترة 1940-1945 من جمع تبرعات بلغت 462،592 جنيهاً وقد شكلت حينها 51% من موازنة التعليم التي خصصها الإنتداب لنفس الفترة. وخلال نفس الفترة قاد العمل التربوي والفكري والأدبي والإعلامي العديد من القادة التي لا تتسع المقالة لذكرهم، لكنهم جميعاً توافقوا على أن الفلسطينيين تجاوزوا نكبة العام 1948 بالتعليم للحفاظ على روايتهم وهويتهم الوطنية.


وفي المحطة التاريخية التي تلت عام 1967 ومثلت نكسة أليمة، أعاد الفلسطينيون تأكيدهم على أن التعليم هو الملاذ الأهم أمام الخذلان والظلم الذي واجهونه. فبعد إعلان الإحتلال الإسرائيلي “توحيد القدس” في حزيران من العام 1967 قام بإلغاء جميع القوانين ما قبل الاحتلال، بما شمل التعليم، وأغلق مكتب التربية والتعليم في القدس وألحق مؤسسات التعليم المقدسية بوزارة المعارف الإسرائيلية. في هذه المحطة التاريخية، قابل القادة المقدسيون والمجتمع الفلسطيني سوياً هذه القرارات بالرفض، وأعلنوا الإضراب المفتوح. أظهرت هذه المحطة المعدن الوطني الأصيل للغيورين من قادة التربية والتعليم والفكر والإعلام الذين تحملوا الإعتقال والإبعاد في سبيل حملهم لأمانة المحافظة على التعليم وحماية الرواية والهوية والقيم الإجتماعية والتراثية الوطنية. وظهر معدن المجتمع المقدسي الأصيل بتجاوبه مع دعوة القادة المقدسيين وتوجه لتسجيل أبناءه في مؤسسات التعليم الوطنية. كما تعاملت مؤسسات التعليم بمسؤولية وطنية وأخلاقية عالية، وعملت بجهد كبير لتوفير الصفوف والكوادر التعليمية المؤهلة. لقد أثبت الجميع قدرتهم على التعامل مع سياسة العصا والجزرة التي كانت تحاول تشويه التعليم في سعيها لإنهاء رواية وهوية وطنية أصيلة حافظت عليها الأجيال تباعاً.

وأمام هذا الوضع أصدرت الحكومة الإسرائيلية في العام 1969 “قانون الإشراف المدرسي رقم 5579” الخاص بترخيص مؤسسات التعليم “غير الرسمية” والتي يُسمح لها بالترخيص والعمل تحت إشراف حكومي ويخولها الترخيص الحصول على ميزانيات حكومية على أن تقوم بالتعليم حسب المعايير المعتمدة وتعليمات الشؤون التربوية. أما قانون 5579 فقد كان إمتداداً لقانون “الإعتراف بالمؤسسة التعليمية ولمتطلبات التعليم الإلزامي” رقم 579 للعام 1949، ولقانون “التعليم الحكومي” رقم 573 للعام 1953.

وفي هذه المحطة رفض المقدسيون مرة أخرى الإنصياع للقانون وقام قادة المجتمع المقدسي بتكثيف الإتصالات مع المؤسسات الدولية والبعثات الدبلوماسية والفاتيكان ومع الحكومة الأردنية ومنظمة التحرير الفلسطينية، الذين كانوا موحدين في توجههم بأن القدس تحت الإحتلال وأن التعليم حق كفله القانون الدولي. وأمام هذا الجهد الموحد أعلنت السلطات الإسرائيلية تعليقها لقانون الترخيص “مؤقتاً.”
وخلال السنوات الماضية واجه التعليم في القدس تحديات عديدة كان من أهمها غياب السياسات الوطنية التمكينية والتمويل. ومع هذه التحديات وغياب الفعل أنكشفت مؤسسات التعليم الوطنية وحيدة أمام سياسة الإستهداف المنظم لمكوناتها، وإنكشف أيضاً المجتمع المقدسي أمام سياسة العصا والجزرة. أما الحقيقة الأكثر مرارة فهي غياب قيادات التربية والفكر والإعلام التي كان يجب ان تأخذ دورها في الحفاظ على أرث من سبقها وحافظ على التعليم ملاذاً للرواية والهوية الأصيلة. فهل نحن فعلاً على أبواب محطة مفصلية؟

Comments are closed.