تستعدّ إسرائيل هذه الأيام للاحتفال بذكرى مرور ثلاثة أرباع القرن على تأسيسها، غير أن احتفالها لهذا العام بما تسميه “عيد الاستقلال” سيكون له مذاق خاص ومختلف عن كل ما سبقه، فإسرائيل، التي تتباهى دائما بقوة جيشها وتماسك شعبها وحيوية نظامها السياسي الذي صنع منها واحة للديمقراطية في قلب منطقةٍ يسودها الاستبداد، تبدو اليوم دولة مرتبكة وبلا بوصلة، ومنقسمة على نفسها، كما تبدو حكومتها المنتخبة بشقّ الأنفس منذ أشهر قليلة فاقدة للسيطرة وعاجزة عن ضبط حركة المجتمع والشارع. يعود السبب المباشر في هذا الوضع غير المسبوق في تاريخ إسرائيل إلى تعديلاتٍ جذريةٍ تريد الحكومة إدخالها على النظام القضائي في إسرائيل، تحت شعار “إصلاح القضاء”. ومن الواضح أن هذه التعديلات تهدف إلى تقليص سلطة المحكمة العليا في إسرائيل، بحيث تصبح في وضع لا يسمح لها بتعطيل أيّ من القوانين التي يصدرها الكنيست أو إلغائه، وتغيير الوضع الخاص للمستشار القضائي، بحيث لا يتمتّع بأي استقلالية في مواجهة الحكومة، وبالتالي إلغاء صلاحيته في فحص مدى قانونية القرارات التي تتّخذها الحكومة أو في الاعتراض عليها، وقصر دوره، بالتالي، على تبرير هذه القرارات والدفاع عنها. وتهدف التعديلات أيضا إلى إدخال تعديلاتٍ جذرية على تشكيل اللجنة المفوّضة باختيار قضاة المحكمة العليا، تتيح للحكومة إمكانية السيطرة عليها، وبالتالي، على عملية تعيين هؤلاء القضاء. بعبارة أخرى، يمكن القول إن الهدف الأساسي من التعديلات القضائية التي تصرّ حكومة نتنياهو على تمريرها هو تغيير شكل العلاقة بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية وطبيعتها، بما يرجّح كفّة السلطة التنفيذية، وينزع من السلطة القضائية قدرا كبيرا من استقلاليتها.
تجدر الإشارة هنا إلى أن علاقة المصلحة والمنافع الشخصية المتبادلة بين نتنياهو والأحزاب الصهيونية الدينية المتطرّفة تفسر إصرار الحكومة الإسرائيلية على تمرير تلك التعديلات، رغم خطورتها الكبيرة على استقرار النظام السياسي، فنتنياهو يبدو شديد الحرص على إقرارها، لأن ذلك سيمكّنه من الإفلات من ملاحقاتٍ قضائيةٍ تُمسك بخناقه بسبب تهم الفساد العديدة الموجهة إليه، والتي قد تفضي إلى إلقائه في غياهب السجن. أما الأحزاب الدينية المتطرّفة، والتي لا تستطيع حكومة نتنياهو أن تستمر في الحكم بدون دعم نوابها في الكنيست، فتبدو شديدة الحرص، في الوقت نفسه، على تمرير هذه التعديلات، وذلك لأن إقرارها سيؤدّي إلى تمكينها من تحقيق هدفين رئيسيين. الأول: فرض أجندتها التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية نهائيا، والاستمرار في ابتزاز نتنياهو. والثاني: ممارسة أقصى قدر من الضغوط على الحكومة لإدخال تعديلاتٍ على القوانين التي تمسّ العلاقة بين الدين والدولة في إسرائيل، وبما يسمح بإدارة الدولة والمجتمع في إسرائيل وفق الشرائع اليهودية. ولأن أوساطا وهيئات كثيرة في إسرائيل، خصوصا الأوساط والهيئات العلمانية، على اختلاف توجهاتها، ترى أن التعديلات القضائية المقترحة ستؤدّي حتما إلى تقويض أسس النظام “الديمقراطي” في إسرائيل، الذي يقوم على الفصل والتوازن بين السلطات، عبر تمكين السلطة التنفيذية من الهيمنة على السلطتين التشريعية والقضائية، فقد لجأت إلى توجيه نداءٍ لجماهيرها للنزول إلى الشارع، للتعبير عن رفضها التام التعديلات المقترحة والمطالبة بإلغائها، وهو ما استجابت له على الفور. وقد أخذت هذه الاحتجاجات في البداية، والتي انطلقت منذ أسابيع، شكل حشود جماهيرية غفيرة راحت تتظاهر في شوارع تل أبيب، ثم ما لبثت هذه الحشود أن ازدادت زخما، وراحت تتمدّد وتتوسّع إلى أن شملت مختلف المدن الرئيسية، ثم دخل الاتحاد العام لنقابات العمال (الهستدروت) على الخط، وقرّر إضرابا مفتوحا انضمّت إليه الجامعات والمدارس ونقابات الأطباء والمهندسين وهيئات النقل والموانئ والمطارات، ما أدّى إلى إصابة الحياة في إسرائيل بما يشبه الشلل التام. ولكن الأخطر وقع حين تبيّن أن الشرخ الذي أصاب المجتمع الإسرائيلي وصل إلى المؤسّسات الأمنية، وأن أعدادا متزايدة من المواطنين اليهود بدأت تعلن صراحة عن رفض أداء الخدمة العسكرية أو الانخراط في صفوف الاحتياط الذي يعدّ عماد الجيش الإسرائيلي. وهنا بدأت القيادات الأمنية، وفي مقدمتها وزير الدفاع يوآف غالانت، تشعر بقلق حقيقي، وتطالب علانية بسحب التعديلات القضائية المقترحة، أو على الأقل تأجيل طرحها إلى حين التوصل إلى صيغةٍ توافقية بشأنها. وعلى الرغم من أن نتنياهو ركب رأسه في البداية واتخذ قرارا بإقالة غالانت، إلا أن هذا القرار المتعجّل زاد من احتقان الشارع السياسي والأمني في إسرائيل، الأمر الذي اضطر نتنياهو، في النهاية، إلى التراجع والإعلان عن تأجيل طرح هذه التعديلات إلى ما بعد الأعياد اليهودية، ثم دخل رئيس الدولة الإسرائيلي، هيرتزوغ، على الخط، ووجّه دعوة إلى كل الفرقاء للدخول في مفاوضاتٍ بغرض التوصّل إلى صيغة مقبولة من الجميع.
يستحقّ ما جرى في إسرائيل في الأسابيع القليلة الماضية قراءة متأنية غير تقليدية، فقد يرى بعضهم فيه دليلا على حيوية النظام الديمقراطي في إسرائيل، وعلى قدرة هذا النظام على تجديد نفسه، ومنع “تسلّط الأغلبية”، وذلك بالحيلولة دون تمكينها من استغلال وضعها المؤقت أغلبية للمساس بالركائز الأساسية للنظام. معنى ذلك أن الاضطرابات التي شهدتها إسرائيل أخيرا هي، وفقا لهذه القراءة التقليدية، مجرّد تعبير عن أزمة عابرة يمكن للآليات الديمقراطية تجاوزها وإيجاد حلول مناسبة لها، إما بالتوصل إلى صيغة توافقية تُرضي مختلف الأطراف المتنازعة أو باللجوء إلى انتخابات برلمانية مبكّرة لحسم الخلاف السياسي المستحكم بين هذه الأطراف، فإذا أتت الانتخابات المبكرة بالأغلبية الحالية نفسها، فسوف يكون من الصعب على قوى المعارضة في هذه الحالة منعها من تمرير ما تراه من تعديلات. أما إذا أتت هذه الانتخابات بأغلبية مختلفة، فسوف يكون ذلك بمثابة دليل قاطع على أن التعديلات القضائية التي تريد الحكومة الإسرائيلية الحالية فرضها مرفوضة شعبيا. وبالتالي، يكون الشارع السياسي قد تمكّن من إحداث التغيير المطلوب بالوسائل الديمقراطية المعتادة. غير أن وجهة النظر هذه قد تصحّ بالنسبة للدول والمجتمعات العادية التي استقرّت فيها ركائز الديمقراطية، وليس بالنسبة لدولة احتلال استيطاني، كإسرائيل، يديرها نظام فصل عنصري، فالعنصرية والديمقراطية لا يمكن أن يجتمعا معا في نظام واحد أو يتعايشا داخل دولة واحدة. وهنا تتجلّى حقيقة المأزق الذي تواجهه إسرائيل، والذي قد لا تستطيع منه فكاكا، فما جرى في إسرائيل في الأسابيع القليلة الماضية يؤكّد أننا إزاء دولة قد تبدو في ظاهرها قوية ومتحكّمة، لكنها في حقيقة أمرها مجرّد كيان هشّ يعجّ بالمتناقضات. ولأن متناقضاته تبدو من النوع المستعصي على الحل، فمن الطبيعي أن تزداد عمقا بمرور الوقت، وأن تتكاثر إلى أن ينفجر المجتمع الإسرائيلي من داخله.
كان في وسع إسرائيل أن تظهر بمظهر الدولة العلمانية الديمقراطية طوال العقود الثلاثة الأولى من تاريخها، خصوصا أنها حاولت الظهور طوال تلك الفترة بمظهر الدولة الصغيرة المحاطة بالأعداء من كل جانب، والراغبة في تحقيق السلام مع جيرانٍ يرفضونه. لذا لم يكن غريبا أن تتحكّم القوى العلمانية واليسارية في إدارة نظامها السياسي والاجتماعي خلال تلك الفترة، غير أن هذه الصورة راحت تتغيّر بمرور الوقت تحت تأثير عاملين. الأول: حين تمكّن الجيش الإسرائيلي من إلحاق هزيمة كبرى بجيوش ثلاث دول عربية عام 1967، ومن احتلال أراضٍ مساحتها أضعاف المساحة المخصصة لها بموجب قرار التقسيم الذي أقرّته الأمم المتحدة عام 1947. والثاني: حين بدأت الدول العربية المجاورة لإسرائيل تتّجه نحو التسوية السلمية عقب حرب 1973، بينما رفضت إسرائيل وأصرّت على عدم الانسحاب من كل الأراضي العربية التي احتلتها في حرب 1967. لذا لم يكن غريبا أن تبدأ قوى اليمين العلماني أولا، ثم قوى اليمين الديني، في السيطرة التدريجية على مفاصل النظام، إلى أن أصبحت إسرائيل دولة فصل عنصري يشبه نظامها نظام الأبرتهايد الذي ساد في جنوب أفريقيا حتى بداية تسعينيات القرن الماضي.
ومن الطبيعي، في سياقٍ كهذا، أن تواجه إسرائيل مأزقا مزدوجا لا تستطيع الفكاك منه، يتمثل بعدُه الأول في إصرار الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على إخضاع الشعب الفلسطيني، ورفض منحه الحق في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة على أرضه. ويتمثل بعده الثاني في إصرار اليمين الديني المتطرّف على تحويل إسرائيل إلى دولة توراتية كبرى تمتد من النيل إلى الفرات. وما حدث في إسرائيل في الأسابيع القليلة الماضية يؤكّد أنها تنهار وتتفكّك تحت ضغط التناقضات الناجمة عن هذا المأزق المزدوج، فهي، من ناحية، تبدو غير قادرةٍ على إخضاع الشعب الفلسطيني الذي يُثبت كل يوم أن مقاومته لا تقهر، رغم سطوة كل أجهزتها الأمنية والقمعية. وهي، من ناحية أخرى، تبدو غير جاهزة أو مهيأة للتحوّل إلى دولة أصولية ثيوقراطية، رغم تمدّد اليمين الديني واتساع تأثيره. قد يستطيع نتنياهو أن يعثر على مخرجِ مؤقتٍ من الأزمة الراهنة، سواء بالتوصل إلى حلٍّ وسطٍ مع قوى المعارضة، أو باللجوء إلى انتخاباتٍ مبكّرة، لكن مأزق الدولة الإسرائيلية ونظامها العنصري سيظلان قائميْن إلى أن يتفكّكا معا، وذلك هو الدرس الحقيقي الذي يمكن أن نستخلصه مما جرى في إسرائيل في الأسابيع القليلة الماضية.
Comments are closed.