تتسارع الأحداث على كافة المستويات، وتزداد وتيرة الزيارات بين مسوؤلي الدول المختلفة فيما بات يؤشر لبدايات عالم جديد بعيدا عن الهيمنة الأميركية وخلق توازنات عالمية جديدة.
فالعالم يتغير باتجاه النظام الدولي الجديد متعدد الاقطاب، بعد أن أصبح التمرد واضحا بحق الهيمنة الأميركية وأحادية احتكار القرار الدولي .
أميركا من جهتها تحقق خسائر في مسار علاقاتها مع دول مختلفة وتتراجع في مواقع دولية اخرى، لكنها تحاول من خلال سياساتها التكتيكية المتغيرة الحفاظ على هيمنتها لأهداف سياساتها الخارجية الثابتة .
والاتحاد الأوروبي من جهته يتنازل عن دور أوروبا التاريخي لصالح الولايات المتحدة بل ويتورط في خدمة المشاريع الاميركية ان كان بما يتعلق باوضاع اوروبا وتحديدا الحرب التي تخوضها الولايات المتحدة بالوكالة من خلالهم ضد روسيا الان ، او بما يتعلق بتبعية المواقف الاميركية بشأن المتغيرات الجارية في العالم العربي والتموضعات السياسية الجديدة وهذا ما عكسته تصريحات بوريل وفان ديرلاين في الايام الماضية ان كان بشأن قضية شعبنا او حول الشأن السوري. يجري ذلك في غياب قيادات أوروبية تاريخية وازنة تحقق لأوروبا قراراها المستقل ومصالحها وتنطلق من المبادئ القيمية والاخلاقية المفترضة للاوروبين والاتحاد الأوروبي في معالجة القضايا الدولية، بدل التنازل الجاري عن الدور الأوروبي لصالح الولايات المتحدة .
وحتى لا نكون عبثيين، علينا أن نرى ايضا المتغيرات الجارية في المجتمع الأميركي نفسه بما فيه من مكون يساري داخل الحزب الديمقراطي واوساط اخرى تقدمية وبعض المنظمات اليهودية تتعلق بالمواقف من الصهيونية ودولة الاحتلال الاستعماري والابرتهايد. كما ايضا حركات شعبية وحزبية واسعة في أوروبا تعلن تضامنها اليومي مع قضايا شعبنا في مواجهة الاحتلال وافرازاته المختلفة .
اما في العالم العربي، فهنالك مؤشرات على وجود استراتيجية عربية جديدة تنطلق الآن في موازاة بدايات ملامح النظام الدولي الجديد. حيث يتلخص ذلك بعدد من قرارات قمة جدة بعودة أولوية الأهتمام بالشان الفلسطيني ورفض سياسات التطبيع قبل إنهاء الاحتلال، وعودة سوريا الى جامعة الدول العربية وعودة العلاقات الدبلوماسية البينية العربية معها، وانهاء حرب اليمن التي تركت اثارا مدمرة على الشعب اليمني ولم تحقق بالنتيجة شيئاً وفق ما اراده الغرب ، اضافة الى المصالحة السعودية الإيرانية وتمددها لدول اخرى ورفض السعودية للضغوطات الأميركية للتطبيع مع دولة الاحتلال مما تسبب بعدم اكتمال مشروع اتفاقات “ابراهم” وفق ما كان التخطيط له، كما وسقوط فزاعة العدو الايراني للأمة العربية .
هذا بالإضافة إلى رفض المطالب الأميركية المتعلقة بانتاج النفط وعضوية روسيا في منظمة “اوبيك بلس”، وما تبع ذلك من تراجع بلينكين أمام لقاء مجلس التعاون الخليجي حول عدد من القضايا ومنها الموقف العربي من قانون قيصر بحق سوريا أو العقوبات على روسيا، وتمرد على تاريخ طويل من العلاقات مع الولايات المتحدة التي كانت قائمة على فكر الاستعمار بمختلف أشكاله بحق القرارات العربي ، الأمر الذي يتوجب برأيي استمراره والبناء على تلك التوجهات الجديدة وزيادة أشكال التضامن العربي لمواجهة الضغوطات القادمة المحتملة .
ومن جانب آخر يتسع انفتاح العرب على الشرق، وتحديدا مع الصين وروسيا، الأمر الذي قد يكون له علاقة بمصادر الثقافة الشرقية ومكوناتها،مما اتاح تمدد دور البلدين في العالم العربي للبحث عن المصالح المشتركة في مواجهة الهيمنة الأميركية المتراجعة من خلال أشكال مختلفة من العلاقات اعتمدت على توقيع اتفاقيات شراكة استراتيجية وتعاون بقطاعات مختلفة كان آخرها امس، حين وقع الرئيس “أبو مازن” مع نظيره الصيني تلك الاتفاقيات والتي توجت علاقات تاريخية طويلة امتدت لاكثر من ستة عقود مع انطلاقة ثورتنا الفلسطينية.
الجزائر من جهتها تنفذ من خلال رئيسها تبون، توقيع اتفاقيات استراتيجية مماثلة مع الرئيس الروسي بوتين خلال الزيارة التي يقوم بها الرئيس الجزائري والذي تعتبر بلاده اهم شركاء روسيا بالمغرب العربي ودولة منتجة للنفط والغاز ومشاطئة للبحر الأبيض الذي يرغب الروس بتوسيع حضورهم به الى جانب شواطئ سوريا .
من جهة اخرى يقوم الرئيس الايراني منذ اسبوع بجولة واسعة بالقارة اللاتينية بعد أن حقق اليسار فيها الفوز بالجولات الانتخابية الأخيرة منهياً مقولة الحديقة الخلفية التابعة للولايات المتحدة .
يرافق كل ذلك التوسع الجاري بعضوية التكتلات الاقتصادية الناشئة مثل البريكس ومنظمة شنغهاي، والبدء باعتماد العملات الوطنية بدل الدولار بالمعاملات التجارية بين الدول والتي كان آخرها امس، بحسب ما اعلنته مصر أيضا.
حيث تتسارع الاحداث الدولية نحو متغيرات اصبحت تطيح بأشكال النظام الدولي القائم وتحديدا في شأن افول الهيمنة الأميركية الراعي الاساس لمشروع الحركة الصهيونية من جهة، ومن جهة أخرى تصاعد التحولات والتطورات الجارية في شكل ومضمون الاحتلال مع حكومته الجديدة القديمة التي تعتمد التصعيد العدواني والاستعماري الإسرائيلي القائم والمُقبل ضد شعبنا وفق ما حددته من رؤية في برنامج ائتلافها الحكومي بخصوص الضم والالحاق والاحلال والحق الحصري لليهود في أرض فلسطين التاريخية وكل ما يرتبط بهذا المفهوم العنصري الصهيوني والتوراتي المزعوم، من خلال مشروع الحسم المبكر والسيطرة المباشرة على معظم أراضي الضفة الغربية، ومنح شرعية قانونية إسرائيلية للبؤر الاستيطانية كافة، وضم المستوطنات إلى إسرائيل ونقل المسؤولية عن المجالات المدنية من الإدارة المدنية الخاضعة للجيش إلى وزارات إسرائيلية عادية في تكريس واضح للابرتهايد الاستعماري .
امام كل تلك المجريات،فإن قضيتنا الفلسطينية تعيش مرحلة فارقة من تاريخ الصراع مع الاحتلال الاستعماري وسياساته الاجرامية التصفوية، الأمر الذي يتطلب منا التأكيد على جوهر مرحلة التحرر الوطني التي ما زلنا نخوضها خاصة مع التحولات الدولية الجارية التي قد تؤثر في ميزان القوى بالاقليم ايجابا، وبإعادة الاعتبار والحضور لمشروعنا الوطني التحرري الديمقراطي للتخلص من كل أشكال الاحتلال الاستيطاني والابرتهايد .
كافة تلك العوامل تستدعي اليوم إجراء مراجعات شاملة تأخذ هذه المتغيرات بعين الاعتبار، اضافة الى مراقبة ما يجري الان في دولة الاحتلال الاستعماري والمجتمع اليهودي بشكل عام من انقسامات حادة وتحولات داخلية .
ان هذا يتطلب برأيي وضع رؤية متجددة عملية وواقعية لمسار حركتنا الوطنية للتعامل مع تلك المتغيرات التي باتت عاملا مؤثرا في مسار كفاحنا نحو الحرية والأستقلال الوطني .
أن تحقيق تلك المراجعات يتطلب الجرأة السياسية واستخلاص العبر من تجربتنا الكفاحية الطويلة والمعقدة خاصة وأننا أمام احتلال استعماري غير كلاسيكي بحكم طبيعة جوهره ومكوناته المختلفة والمتشعبة. وبهدف وضع الرؤية المتكاملة لمواجهة هذه الخصوصية التي تشمل التطورات الجارية في دولة الاحتلال التي تعكس التطور الطبيعي “لدولة” قامت على أساس التطهير العرقي وفكر الاستعمار الاستيطاني قبل ٧٥ عاما دون مساءلة حتى اليوم من النظام الدولي القائم بل وبتشجيع منه على ارتكاب جرائمها .
أن حركتنا الوطنية المعاصرة التي عاشها جيلي منذ نصف قرن من الزمن ما زال يفترض فيها ان تمضي قدما من أجل استكمال مرحلة تحررنا الوطني الديمقراطي الناجز باتاحة المجال لاوسع القطاعات المجتمعية وخاصة الشبابية للمشاركة في تحمل مسوؤلياتها الوطنية من خلال اجراء الانتخابات العامة للمجلس التشريعي والنقابية والطلابية والبلدية خاصة المغيبة بالمحافظات الجنوبية وتطوير دور مؤسساتنا الوطنية وبالمقدمة منها دوائر منظمة التحرير الفلسطينية بشكل يرتقي لمواجهة الأحداث. وفي هذا الأمر يكمُن حجر الزاوية الذي يستدعي الاهتمام والعمل والوضوح لمواجهة الضغوطات بتكرار تجارب سابقة من اطراف مختلفة تتعلق بسراب الأفكار السياسية الاميركية باختلاف اداراتها والتي لا شأن لها بإنهاء الأحتلال ، بل لخدمة مشروع الحركة الصهيونية العالمية التي يتسابق زعماء دوليين لإعلان انتمائهم لها وبالمقدمة منهم الرئيس بايدن .
أننا نعيش اليوم في عالم صعب ومعقد ، عالم اصبحت تحكمه علاقات المصالح للدول والقوى ونظام عالمي حتى اللحظة لا تسوده العدالة .لكنها الفرصة أمامنا في عالم يتجه للتغير، أن نؤثر فيه باستنباط أشكال الصمود والمقاومة الشعبية واعادة صياغة العلاقة مع هذا الاحتلال على أساس التناقض والصراع،واستقطاب الأصدقاء من احرار العالم وقواه الديمقراطية التقدمية حتى نكون قادرين على توسيع شبكة تحالفاتنا مع جماهير تلك القوى حتى تؤثر هي في سياسات حكوماتها، والتقدم نحو الرؤية والهدف في ظل سرعة المتغيرات السياسية الجارية .
Comments are closed.