كتب: عقل أبو قرع
لفت انتباهي نوع من الجدل، أو نوع من الأخذ والرد في وسائل الإعلام، بين جمعيات مجتمع مدني وبين وزارة التعليم العالي أو مع بعض الجامعات حول التصنيف العالمي للجامعات ومركز الجامعات الفلسطينية ضمن هذا التصنيف، ورغم أن إثارة الموضوع هو منطقي وموضوعي، من منطلق الحرص على تقدم الجامعات في بلادنا ومواكبتها للجامعات في العالم، وهذا مفيد للطالب وللباحث أو الأستاذ وللجامعة وللمجتمع قاطبة، ولكن محاولة جامعات وبغض النظر عن الاسم، تبوّء مركز ما ضمن التصنيف العالمي للجامعات، بناء على معايير غير موضوعية، هو أمر غير مقبول.
وفي العادة، تصدر نشره سنوية دورية عالمية لتصنيف الجامعات أو مؤسسات التعليم العالي، وقبل فترة صدرت نشرة بهذا الخصوص، وبالطبع احتلت الجامعات الأميركية وعلى رأسها جامعة “هارفرد” والجامعات البريطانية وعلى رأسها جامعة “كامبريدج” المراتب الأولى لأهم ولأفضل الجامعات في العالم، ومن منطقتنا لم تأتِ أي جامعة عربية أو فلسطينية في الـ 100 جامعة الأهم في العالم، وكانت هناك جامعة إسرائيلية واحدة في القائمة هي “التخنيون”.
وكان واضحاً أن هناك تقدماً ما للجامعات التركية والصينية، التي تواصل وبشكل تدريجي تقدمها السنوي والذي يعكس اهتمام هذه الدول بالتعليم العالي ومُخرجاته من أبحاث وخريجين، واستخدمت النشرة أو الاستفتاء كما جرت العادة كل عام، حوالي 13 معياراً عالمياً لتحديد مستوى الجامعات، منها البيئة الأكاديمية ونسبة الأساتذة الى الطلبة ومستوى المنح والتنوع والجودة، ومستوى الأبحاث، ومدى استخدام او الاستعانة بالأبحاث من قبل الآخرين، والابداع او الابتكار او التطوير، والنظرة العالمية للجامعة ونظرة المجتمع للجامعة، ومستوى الوظائف التي يحصل عليها الخريجون وغيرهما من المعايير المتفق عليها عالمياً.
وفي واحد من التصنيفات العالمية الأخيرة كذلك، كان لافتاً تبوّء خمس جامعات تركية على الأقل مراكز جيدة في التصنيف، وهذا يعكس مدى الاهتمام الرسمي وغير الرسمي بالتعليم العالي وبالأخص الأبحاث، والاهم تطبيقات الأبحاث في خدمة البلد والاقتصاد وبناء المؤسسات والتنمية في بلد مثل تركيا، لم يكن يولي هذا الاهتمام قبل فترة وجيزة، ولا عجب اذا علمنا ان التعليم او بند موازنة التعليم العالي يحتل الرقم الأعلى من ضمن بنود ميزانية الدولة التركية، ولا عجب كذلك اذا علمنا ان الاقتصاد التركي بات من ضمن الاقتصاديات العشرين الاقوى في العالم، وهذا له علاقة مباشرة وغير مباشره بنوعية التعليم وإفرازات التعليم من أبحاث وتطبيقات.
ومن الواضح ان عدم احتلال جامعات فلسطينية أو عربية المراكز الـ 100 الأوائل مثلاً، يعكس نوعية ومدى الأهمية او الدعم الذي يحظى به التعليم العالي، سواء من قبل الحكومة او من قبل المجتمع، وصحيح انه يوجد عندنا عدد من الجامعات او من مؤسسات التعليم العالي يفوق ما عند الكثير من الدول المتقدمة، حين يتم مقارنة ذلك بأعداد السكان، ولكن صحيح كذلك أننا لم نواكب التقدم النوعي في التعليم العالي الذي حصل ويحصل في العالم، من حيث أهمية الأبحاث، وتطبيقات الأبحاث في المجتمع، وبالتالي العلاقة مع القطاع الخاص، ومع المجتمع المدني.
وصحيح كذلك ان التعليم العالي لا يقع من ضمن أولويات الدعم الرسمي وخاصة الدعم المادي، وصحيح انه ما زالت توجد تخصصات مكررة في معظم مؤسسات التعليم العالي، وبالكاد يحتاجها المجتمع او يجد خريجوها وظائف، وصحيح كذلك وكما كان واضحا هذا العام وفي الأعوام السابقة، أن مؤسسات التعليم العالي في بلادنا باتت تتسابق على أعداد الطلبة وبالتالي على أقساطهم من أجل حل أو التعامل مع الأزمات المالية التي تمر بها، متناسية الجودة والأبحاث والنوعية وبالتالي مواكبة الجامعات العالمية.
ورغم مواصلة دعم المجتمع الفلسطيني للتعليم وافتخاره بأنه مجتمع متعلم ويملك الكثير من مؤسسات التعليم العالي، ولكن يلحظ عدم التطور من ناحية مفهوم التعليم العالي ونوعيته، وبالاخص المعايير العالمية التي يتم تصنيف الجامعات على اساسها، وهي البيئة الاكاديمية التي تشمل نوعية الطلبة والعاملين والمنهاج والاسلوب، وكذلك نوعية الابحاث والدراسات، وكذلك مدى استفادة المجتمع او استخدام الناس من الأبحاث، وكذلك مستوى الإبداع او التجديد، اذا لم يتم أخذ هذه المعايير بعين الاعتبار، سوف يبقى التعليم العالي الفلسطيني بعيداً عن ما يتم من تطور في العالم.
وسوف تبقى الجامعات الفلسطينية بعيدة عن احتلال مراكز متقدمة في سلم الجامعات في العالم، وسوف تواصل هذه الجامعات الانحدار نحو البعد التجاري المادي الكمي للتعليم، أي تواصل الاهتمام بالكمية بدلا من النوعية والجودة والكفاءات، وبالتالي تتواصل المنافسة بينها كما نرى هذه الأيام، من أجل قبول أكبر عدد من الطلاب، وبالأخص من طلبة التعليم الموازي، أملا بتحقيق عائد اكبر من الأقساط وتناسي أن للتعليم العالي رسالة أهم من ذلك بكثير، وهذه الرسالة هي التي تجعل جامعات معروفة تتبوأ المراكز الأولى في العالم ومنذ سنوات عديدة.
واذا تواصل هذا الوضع كما نرى خلال السنوات الماضية، فسوف يبقى التعليم العالي الفلسطيني بعيداً عن ما يتم من تطور نوعي في العالم، وسوف تبقى الجامعات الفلسطينية بعيدة عن المساهمة في تنمية المجتمع وبعيدة عن التأثير في اتجاهات تطوره، والأهم عدم فقد الأمل الذي كانت تحمله الأجيال الشابة من خلال التعليم العالي من أجل تحقيق مستقبل زاهر.
Comments are closed.