بقلم: جمال زقوت
لم يكن استشهاد شيرين أبوعاقلة في أطراف مخيم جنين مجرد مصادفة، فهي التي قررت أن تخرج مع الفجر لتلك التلة التي يسميها الصحفيون ومندوبو وكالات الأنباء تلة الصحفيين، لتكون مع الحدث وصوت هذا المخيم الذي أوجع المحتلين قبل عشرين عامًا، ويبدو أنهم كانوا قد قرروا تصفية حساب قديم مع المخيم الذي أطلق عليه ياسر عرفات حينها “جنين چراد”.
وكما يبدو أيضًا أن تمرير عملية تصفية الحساب القديمة الجديدة في عتمة ليل بعيدًا عن عيون العالم، استدعت من وجهة نظرهم التي لم تعد ترى سوى من عيني القناص إسكات صوت شيرين الدافئ وإغلاق عينيها الجميلتين اللتين احترفتا رؤية حقيقة معاناة الناس ونقلها للعالم كما هي دون زيادة أو نقصان، فهي أكثر من يعلم أن التراجيديا الفلسطينية التي تدخل نكبة شعبها هذه الأيام عامها الخامس والسبعين، وأن كل ما تحتاجه هذه التراجيديا للخلاص هو عين الحقيقة دون تهويل أو تعتيم، تمامًا كما تحتاج قيادة وطنية تنبع من هول المعاناة دون عنتريات أو تهاون.
كما لم يكن “ضحايا فائض قوتهم” و”حبيسي”عنصريتهم” يدركون أن دماء شيرين ستكون الوقود الذي يشعل لهيب مطاردة القتلة من قلب فلسطين إلى أربع أرجاء المعمورة لتلاحقهم لعنة روحها التي باتت روح قديسة تثأر لصلب عيسى وليس فقط لسفك دم الفلسطينيين على مذبح حريتهم. فقد احترفت سيدة الخبر البحث عن الحقيقة في مأساة شعبها حتى باتت هي نفسها الحقيقة التي ينتصر فيها كفها وكف شعبها المُدميان على مخرز العدو.
في القدس التي تتحول كل يوم إلى شعلة لا تنطفئ في واجهة الصراع، وتنير بواباتها إلى دروب الحرية التي باتت على مرمى حجر، يتجدد في شوارعها العتيقة درب آلام جديد يخط فيه مسار صعود روحك للسماء من باحة المستشفى الفرنساوي إلى كنيسة الروم الكاثوليك نحو مقبرة صهيون.
وفي معركة الدفاع عن تابوت جثمان القديسة المقدسية وإعلاء راية فلسطين الواحدة ينتصر الكف على المخرز، كما ينتصر شبان المدينة المقدسة على زيف رواية السيادة المزعومة وعطاءات ترامب المسمومة ويرتفع الجثمان على أسنة رماح سواعد الشباب تحت شمس القدس التي تؤذن بقرب حريتها.
في القدس اليبوسية توحدت أجراس الكنائس وتكبيرات مآذن المساجد، وهتافات الحناجر في بوتقة كفاحية ومشهد مهيب بعشرات الآلاف الذين نبذوا الانقسامات الدخيلة على شعبنا، سواء كانت الفئوية المقيتة العابرة التي استهدفت قصم ظهر الوطنية الجامعة، أو الشعوذات التي تتغذى من نزعات انهزامية تحاول إخفاء وجهها الحقيقي بخزعبلات ليست لها علاقة بسماحة الأديان وسمو معاني المحبة التي احتضنتها حضارات بيت المقدس وأكناف بيت المقدس.
كان هذا المشهد المهيب بمثابة الصحوة الجمعية، وقسم الوفاء الشامل لرسالة شيرين أبو عاقلة بأن دماءها لن تذهب هدرًا، و أن عقاب القتلة يمر من بوابة الوحدة وإسقاط الانقسام في وحدة عارمة تجعل من مقولة إن الاحتلال إلى زوال حقيقة لا تقبل التأويل أو المساومة.
كما أظهر هذا المشهد الإنساني العظيم مدى صلابة النساء والرجال والشابات والشبان، الذي أعادوا للأذهان مجددًا قوة إرادة الفلسطيني الكنعاني، وإصراره على مواصلة كفاحه لتقريب حقيقة يوم الخلاص من الاحتلال.
سيسجل التاريخ أن جنازة تشييع الأيقونة الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، والتي غطت أرض فلسطين، وارتفع صدى صوت مشيِّعيها في سماء الكون على مدار ثلاثة أيام “11-13/ آيار /2022، ولا تزال ارتداداته تغطي فضاءات الأثير، نعم سيُسجل بأن هذا اليوم في سفر التاريخ الذي يصنعه الفلسطينيون هو يوم اندلاع انتفاضة الحرية بكل ما تحتاجه من إرادة الناس ومتطلبات النهوض والتغيير، وما تستدعيه من ضرورة مغادرة مرحلة الهوان والإذلال مرة وإلى الأبد، وانصياع المنقسمين لإرادة الشعب الذي أنجب تلك القديسة الأيقونية المقدسية.
فكما كان التاسع من ديسمبر 1987 شرارة اندلاع الانتفاضة الكبرى في يوم دهس وقتل أربع عمال غزيّين ذاهبين للعمل من أجل رزقهم وقوت أطفالهم شمال قطاع غزة، ومن ثم القمع الهمجي لمظاهرة تشييعهم في اليوم التالي في جباليا، فإن احتضان شيرين الأرض التي أحبت بعد اغتيالها برصاصة قناص حاقد يوم 11-5، وقمع تشييعها في القدس يوم 13-5 من العام 2022، دون أن تنسى أو تغفل إعداد تقريرها الأخير عن النكبة قبل يومين من رحيلها، وأن طوفان الجرف البشري بمشاركة مئات الآلاف في تشييعها عبر مدن وقرى البلاد ما هو سوى الإيذان بانتفاضة من طراز جديد وخاص ستكون لها ميزاتها وطابعها الخاص بتميز شيرين الأيقوني وإرادة شبان القدس البطولية، والذين حموا جثمانها من عنف وحقد جنود الاحتلال، بل الذين حرروا القدس المحتلة ولو لبرهة من الزمن كما حرر أبطال الانتفاضة الكبرى أبواب القدس وشوارعها وأرواح ناسها ومناضليها من وهم احتواء المقدسيين.
إن السيل البشري في جنازات تشييع شيرين يشي بقدرة الفلسطينيين اللا متناهية لميلاد رموزهم المفقودة ومدى حاجتهم لقيادة بحجم تضحياتهم وبصلابة إرادتهم، تصون بوصلة كفاحهم نحو النصر، فهكذا شعب عظيم يقف على أهبة فجر الانتفاضة التي تعيد للناس كرامتها ومكانتها بعد أن لوثتهما فئوية الانقساميين ومصالحهم الأنانية الخاصة. وإن لم تسارع تلك القيادات المهيمنة على المشهد العام على نبذ حالة الهوان وتعود لإرادة الشعب، فإن شعب الجبارين الذي يبدع باجتراح أشكال انتفاضاته المستمرة منذ أكثر من قرن وفق طبيعة اللحظة ومتطلبات كل مرحلة؛ سيلفظها ويستنهض من معمعان الميدان قيادته الموحدة، فلم يعد بالإمكان هدر المزيد من الوقت، فهذا الشعب الذي ينهض دومًا كطائر الفينيق يستحق قيادة مختلفة تتناسب مع تضحياته وطموحاته وإرادته التي لا ولن تنثني أو تنكس! صوت شيرين الدافئ والهادئ الذي دخل قلوب الملايين، وهو يوثق لآلاف قصص الظلم والمعاناة؛ يصرخ اليوم في وجه هذا العالم وفي كل أرجاء الكون! “بأن من يهمه الانحياز للعدالة الذبيحة في أرض الأنبياء والانتصار لدمي المسفوك مع عشرات آلاف الشهداء الذين سبقوني، فعليه أن يغادر نفاقه وازدواجية معاييره، ويرفع صوته لإنهاء معاناة شعبي، وليس أقل من الحرية وانقلاع الاحتلال عن أرضنا المصلوبة في بلاد السيد المسيح.
هذه رسالة شيرين الأولى والتي فضحت، بمهنيتها وموضوعيتها والتزامها بصوت الحق، جرائم الاحتلال وهي حية، فقد نجحت رسالتها الأخيرة ليس فقط في إخراج الناس من إحباطها وإعادة شعورهم الجمعي بالقوة والتحدي بديلًا لثقافة الهزيمة والخنوع وقلة الحيلة والشعارات الفارغة، واستنهاض مارد التحدي لشعب الانتفاضات في أبديتها! كما نجحت بجدارة في تعرية نفاق محتكري ازدواجية المعايير ووضعتهم أمام مسؤولياتهم، وليس أمام العالم سوى تمكين شعب فلسطين من استعادة حقوقه وفي مقدمتها حقه في العودة وفي تقرير المصير.
إن كل الشواهد التي سبقت ورافقت جريمة اغتيال شيرين أبو عاقلة تؤكد أن فلسطين تقف على أهبة فجر انتفاضة قادمة، وأن موعد ولادتها تجاوزت أشهر الحمل وفاضت، وكل ما تحتاجه القابلة هو الوطنية الموحدة القادرة على صون صيرورة هذه الانتفاضة لانتزاع فجر الحرية دون كبوات “أوسلوية”، ولا اختراع قيادات خارج رحم إرادة شعب أم البدايات وأم النهايات فلسطين.
لروحك الرحمة يا شيرين، وستظل ذكراك عطرة أبد الدهر تحتضن ياسمين رياح الحرية أيتها القديسة الكنعانية الجميلة.
Comments are closed.