بقلم: نهاد ابو غوش
هدأ الضجيج قليلا حول مسيرة الأعلام، وحول ردود الفعل التي كانت متوقعة تجاهها، وتلك التي وقعت بالفعل. لكن المعركة على مدينة القدس وفي القلب منها المسجد الأقصى، وحول فلسطين بشكل عام ما زالت مفتوحة وطويلة، وكل التقديرات تشير إلى أن ما شهدناه في أواخر شهر أيار في القدس هو حلقة من هذه المعركة المستمرة فصولا على مساحة الوطن عبر عمليات الإعدام والقتل الميداني التي أوقعت منذ بداية العام أكثر من سبعين شهيدا غالبيتهم الساحقة من المدنيين، وبينهم 14 طفلا وخمس نساء وفتيات، وشملت كل محافظات الوطن، وكذلك عبر الاقتحامات اليومية المتكررة والاعتقالات الجماعية وهدم المنازل ومصادرة الأراضي وطرح مزيد من العطاءات والخطط الاستيطانية.
باستثناء حالة الشهيدة الأيقونة شيرين ابو عاقلة التي جذب إعدامها اهتماما عالميا قلّ نظيره، فإن معظم جرائم الإعدام مرّت من دون ضجيج، ومن دون الحدّ الأدنى من ردود الفعل التي تتناسب مع هول الجرائم وبشاعتها، ووسط صمت وتواطؤ المجتمع الدولي، واستمرار حالة العجز والتفكك العربيين، والانقسام الفلسطيني الذي يضعف قدرة الشعب الفلسطيني على الردّ، وعلى مراكمة الإنجازات إن تحققت، كما يضعف القدرة على استثمار التضامن الدولي والاستفادة من افتضاح التوحُّش الإسرائيلي.
وبالعودة إلى مسيرة الأعلام التي شهدت اكبر حشد استيطاني / متطرف يقتحم مدينة القدس منذ ثلاثة عقود، وتخللها انتهاكات واعتداءات جسيمة، وتدنيس لحرمة المسجد الأقصى وقدسيته. ولولا المشاهد البطولية للشباب الفلسطيني في مواجهة المتطرفين والأجهزة الأمنية التي ترافقهم وتحمي أفعالهم، لأمكن اعتبار هذه المسيرة تحولا نوعيا لمصلحة إسرائيل في حسم الصراع على مدينة القدس والسيادة عليها. لقد ثبت أن إسرائيل لا تستطيع فرض سيطرتها أو سيادتها إلا بواسطة الحديد والنار وغاز الفلفل والرصاص والهراوات، ومن خلال نشر خمسة آلاف شرطي، ونصب الحواجز وأطواق الإغلاق التي أحاطت بمدينة القدس وبلدتها القديمة فمنعت عموم الفلسطينيين وحتى معظم المقدسيين من وصولها.
لكن معادلة المواجهة كانت مختلّة اختلال فادحا، وملخصها أن المقدسيين تُركوا وحدهم في مواجهة دولة مُدَجّجة بالأسلحة حتى أسنانها، ومُوحّدة بحكومتها ومعارضتها وأحزابها وبرلمانها وجهازها القضائي وأجهزتها الأمنية وصولا إلى بلديتها وجمعياتها الأهلية ومستوطنيها ووسائل إعلامها. وكان واضحا أن إسرائيل تريد أن تفرض سيادتها بالقوة على القدس لكي تمحو الصورة التي تشكلت خلال الأسابيع الأخيرة وبخاصة خلال جنازة الشهيدة شيرين ابو عاقلة، ومواجهات باب العامود والمسجد الأقصى، وظهر من خلالها أن القدس مدينة عربية فلسطينية محتلة. كما أن أزمة الحكومة الإسرائيلية الحالية واحتمالات انهيارها وإجراء انتخابات جديدة، دفعت كل الأطراف الإسرائيلية إلى بدء حملاتها الانتخابية من خلال المزاودة على بعضها البعض ومغازلة المتطرفين والمتشددين، والتجارة الرائجة في هكذا مناخ هي إظهار التشدد ودعم الاستيطان وانتهاج سياسات القمع والبطش تجاه الفلسطينيين.
في المقابل ظل الانقسام سيد الموقف الفلسطيني ليس في هذا الفصل الأخير من المعركة فقط، بل على امتداد العقود الثلاثة الماضية، أي قبل انقسام 2007، واقتصر الأداء الفلسطيني في مواجهة هذا الفصل الخطير على تهديدات كلامية من جهة، وعلى ما ألفناه من أشكال التنديد والشجب المقترن بالعجز عن فعل شيء ذي بال.
تصريحات بعض قادة المقاومة رفعت سقف توقعات الناس، وهي اقترنت كذلك بمبالغات لا فائدة منها على الإطلاق، بل على العكس ساهمت في تشويش الصورة، من كونها كما هي في الحقيقة مواجهة بين دولة احتلال لديها أحدث أنواع الأسلحة وقدرات تدمير هائلة، وبين مقاومة منبثقة عن إرادة شعبية سلاحها الرئيسي هو الإرادة والإيمان بعدالة القضية إلى جانب ما تيسير من أسلحة بسيطة، هذه الصورة انقلبت في نظر كثيرين إلى صورة مثقلة بالأوهام عن وجود نوع من التكافؤ المادي والردع المتبادل الكفيل بمنع إسرائيل من الإقدام على أي تصعيد يتجاوز الخطوط الحمر، وذهب البعض إلى درجة التبشير بقدرة المقاومة على تحرير مستوطنات إلى جانب شلّ الحياة في إسرائيل، وراحت بعض وسائل الإعلام تروّج وتهلل لبدء نزوح اليهود الجماعي عن إسرائيل، ونشرت صورا عن ازدحام وتكدّس المغادرين في المطار خشية مما ستفعله المقاومة.
كما أن المبالغة في الدور الذي يمكن لغزة ومقاومتها أن تضطلع به ينطوي على انتقاص فادح من خيارات الكفاح الوطني المتعددة الأشكال التي يقوم بها الشعب الفلسطيني وشبابه في الضفة وفي قلبها القدس، كما في الداخل المحتل عام 1948، ولذلك فإن من المفيد والضروري تقييم ما جرى بروح مسؤولة همّها تعظيم الإيجابيات وتدارك السلبيات، ومغادرة أشكال المبالغة اللفظية والكلامية التي تذكِّرُنا بمبالغات المذيع أحمد سعيد والوزير الصحاف، أما انتقاد تصريحات بعض قادة المقاومة والفصائل فلا ينبغي أن يصب في تبرير موقف العجز والشلل وانتظار المعجزات من المجتمع الدولي، ولا في تزكية مواقف الفرجة والاكتفاء بإصدار التصريحات وكأننا نتضامن مع شعب شقيق.
ولا شك أن المسؤولية الأولى والأهم تتحملها القيادة الرسمية والشرعية، ليس بسبب ما صدر عنها من مواقف، بل لأنها المسؤولة قبل غيرها عما آلت إليه الأوضاع بعد مسيرة 28 عاما من تطبيق اتفاق أوسلو وتجربة السلطة، وما وصلنا إليه بسبب التلكؤ والتردد في المراجعة وتطبيق قرارات المجلس الوطني ودورات المجلس المركزي، ووضع أولويات في مركز اهتمام هذه القيادة على حساب المصالحة وإنهاء الانقسام.
الدرس البليغ الذي تقدمه الأحداث، ولا تمر تجربة إلا ويعيد هذا الدرس تقديم نفسه لنا ولقياداتنا ومؤسساتنا، هو أن الانقسام لن يصنع لنا انتصارات، لا بالمقاومة ولا بالمفاوضات ولا باي حراك سياسي مهما كان مفيدا، لأن القاعدة التي تقوم عليها هذه الإنجازات رخوة وقلقة وغير متماسكة ولا يمكن البناء عليها.
Comments are closed.