القناة 12- بقلم ميخائيل ميلشتاين – يتسرب مفهوم “الدولة الواحدة” ببطء إلى “الخطاب الإسرائيلي”، لكن درجة الاهتمام التي أبدتها غالبية “الجمهور الإسرائيلي” تجاه هذه القضية لاتزال محدودة، ومن الصعب تخيل كيف ستكون الحياة، ومتى يحدث ذلك، أصبح السيناريو حقيقة واقعة، كما أنه بين الحين والآخر ترفع أصوات جريئة تقدم صورة حادة “للإسرائيليين”، مثل صورة رئيس الأركان السابق “غادي إزنكوت”، لكن سرعان ما تبتلعها ضجيج الانشغال الشديد بقضايا كورونا أو إيران أو التشابك السياسي اللانهائي.
بشكل عام يعمل الناس في “إسرائيل” وفق ثوابت زمنية قصيرة وسريعة، ويركزون على التطورات الجارية – لا سيما على المستوى السياسي والعسكري – ويفكرون “بحسب الأحداث” وليس بطريقة عملية، في حين أن نسبة كبيرة من العوامل التي تغير الواقع تتطور في تيارات عميقة وبوتيرة بطيئة، لذا فسيناريو “الدولة الواحدة” – أي الكيان الذي سيكون موجودًا في المنطقة بأكملها بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط – هو من بين تحديات فك الشفرات المراوغة التي بدأت في تغيير حياتنا الآن وستغيرها أكثر في المستقبل.
فكرة قديمة في سياق جديد
إن فكرة “الدولة الواحدة” موجودة منذ الأيام الأولى للصراع، حتى عام 1967 كان هناك تأييد واسع نسبيًا بين اليهود لفكرة تقسيم الأرض، وعندما تكون هناك دائمًا مجموعات على الهامش تؤيد إنشاء دولة واحدة أو دولة ثنائية القومية (تقوم على اتفاق بين دولتين، ولا ينبغي الخلط بينها وبين دولة واحدة)، كما شكلت حرب 67 نقطة تحول في طريقة التفكير الصهيونية القديمة وفي بؤرة إحياء فكرة أرض “إسرائيل” الكبرى، لكن الانتفاضة الأولى أوضحت صعوبة الحفاظ على واقع دولة الأمر الواقع الواحدة.
وسيرتقي “بإسرائيل” أخطر نقاش في تاريخها بشأن تقسيم البلاد على أساس رؤية الدولتين كما تجسدت في اتفاقيات أوسلو، وانتهت تلك التجربة التاريخية بصدع حاد في أعقاب الانتفاضة الثانية.
وهكذا اختفى النقاش حول القضية الفلسطينية تدريجياً من “الخطاب الإسرائيلي” خلال العقد الماضي، إنها الحاضنة التي تنمو فيها فكرة – وواقع – بلد واحد، وتشير الحواف على اليمين واليسار في الواقع إلى الاتجاه والهدف النهائي في ضوء إيجابي، فالدولة الواحدة في نظرهم هي رؤية قابلة للتطبيق، وهكذا يجد “بتسلئيل سموتريتش”(الصهيونية الدينية) نفسه مع “أ. ب يهوشع” (ابراهام جبريل يشوع أديب وكاتب مسرحي يساري يحرب بشدة احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية)، يكافحان من أجل الهدف نفسه، ولكن من اتجاهات معاكسة لن تلتقي أبدًا، وفي المنتصف يوجد غالبية الجمهور الذين يظهرون القليل من الاهتمام بالديناميات الناشئة والمستقبل المتوقع.
عملياً، دولة واحدة أصبحت حقيقة واقعة، على الأقل في الضفة الغربية والتي، يتسع خط التماس بين الشعبين باستمرار والفصل بينهما غير واضح: المساحة الإقليمية – ومعها الوزن الديمغرافي – و”الاستيطان الإسرائيلي” في المنطقة الذي يتزايد بسرعة، كما تتزايد الانتماءات الاقتصادية والبنية التحتية للضفة الغربية في “إسرائيل” باستمرار، بشكل يقلل من احتمالية الفصل بين المجتمعين مستقبلاً.
إن فكرة الدولة الواحدة هي صورة معكوسة للاتجاه السائد بين اليهود، فحتى ما قبل أربعة عقود، كان هناك إجماع بين الفلسطينيين حول هدف الدولة الواحدة في ظل الهيمنة الفلسطينية، حيث يمكن لليهود أن يعيشوا كأقلية، ومع ذلك، بعد الإخفاقات التاريخية المستمرة، تم فهم صعوبة تحقيق الهدف الطموح نفسه، وأعطيت الأولوية لرؤية الدولتين، والتي تتلاشى منذ عام 2000.
في العقد الماضي، تم إحياء فكرة الدولة الواحدة في النظام الفلسطيني، إذ كانت هذه حقيقة تتطور عند اليهود في وجه اللامبالاة، وبعد كل شيء، فإن موقف الفلسطينيين من الفكرة يجسد قدرًا كبيرًا من الوعي، في الخلفية هناك الركود الذي ينتاب الحركة الوطنية الفلسطينية نفسها في مواجهة الجمود المستمر في المفاوضات السياسية، والصدع العميق في الداخل، وعدم الاهتمام الدولي بالصراع، إلى جانب صعود الجيل الفلسطيني الذي ولد بعد عام 2000 ويولي أهمية أكبر من والديه لتحقيق الذات مع إحباطه من أيديولوجيات الماضي العظيمة التي لم تسفر عن إنجازات كبيرة.
كما يختلف التفسير الفلسطيني لفكرة “الدولة الواحدة” اليوم عن الماضي؟
بمجرد أن كان الترويج للفكرة مدفوعًا بالاعتبارات الأيديولوجية والتحليل الاستراتيجي، فهو يعتمد اليوم على دوافع عملية لتحسين نسيج الحياة، علاوة على ذلك، تم تعريف الدولة الواحدة في الماضي على أنها كيان يسيطر عليه الفلسطينيون، في حين أن العديد من الفلسطينيين اليوم على استعداد للانضمام إلى “إسرائيل” والعيش – على المدى القصير على الأقل – في ظل الهيمنة اليهودية، ولا ننسى أن الفلسطيني لا يتخلى عن تطلعاته الوطنية أو ينسى هويته، بل يضعها في سياق حديث يسمح له في رأيه بإنجازات جماعية وطنية ومدنية خاصة، وهي عقلية موضحة في العديد من استطلاعات الرأي التي أجريت بين الفلسطينيين في السنوات الأخيرة.
في طريق اللاوعي إلى “الدولة الواحدة”
في “إسرائيل”، هناك خوف دائم من سيناريوهات فوضوية تندلع من جهة النظام الفلسطيني، وعلى رأسها “انتفاضة ثالثة”.
لكن من الممكن ألا يتجسد التهديد الحقيقي في «الانفجار» الذي حذرت منه “إسرائيل” منذ عقد ولم يتجسد حتى الآن، بل في الصمت الزاحف اليومي المتمثل في تشكيل دولة واحدة، ومن المحتمل أن بلوغ واقع دولة واحدة لن يحدث في نقطة زمنية واضحة واحدة، وليس بموجب قرار منظم، ولكن من ديناميكية التكوين، أي الصعود “غير المخطط” إلى حالة غير مرغوب فيها، قد يمر الأمر في الطريق إلى “دولة واحدة” بعدة محطات رئيسية، مثل توقع إضعاف الحكم الفلسطيني وقيام “دولة كانتونات”، على سبيل المثال في حقبة ما بعد أبو مازن.
ويمكن أن تتجسد المرحلة الثانية في الضم “الإسرائيلي” الرسمي لجزء من الضفة الغربية أو المنطقة بأكملها، والذي سيصاحب ذلك منح الإقامة أو وضع المواطنة للفلسطينيين في الأراضي التي سيتم ضمها.
وفي المرحلة الثالثة قد يتطور واقع الفصل العنصري في ضوء عدم رغبة “إسرائيل” الأساسية في خدمة ملايين الفلسطينيين، لكن توترات داخلية شديدة داخل “إسرائيل”، إلى جانب ضغوط دولية شديدة عليها، قد يؤدي في النهاية إلى المحطة الرابعة والحاسمة – إعلان رسمي لدولة واحدة، يكون فيها جميع السكان مواطنون متساوون.
وستكون هذه بداية فصل تاريخي جديد، فصل لن ينذر بالضرورة بتبديد التوتر والعداء من الماضي بل بتفاقمهما، وهذه المرة بروح “البلقنة” (نسبة إلى البلقان)، وستكون “الدولة الواحدة” كيانًا يسعى فيه الشعبان إلى الهيمنة وترك المجموعة الأخرى أقلية.
وتجد “إسرائيل” حالياً صعوبة في التوصل إلى قرارات استراتيجية بشكل عام، وفي السياق الفلسطيني بشكل خاص، يتم استبدال القرارات بطريقة – التي تعرفها بأنها “استراتيجية” – وتسمى “إدارة الصراع” أو “تقليصها” و “السلام الاقتصادي”، وهو يعتمد على الافتراضات الأساسية بأنه يمكن تجميد الموقف حتى تنضج شروط القرارات الاستراتيجية، ولكن من الناحية العملية، يعد هذا مسارًا غير مباشر يؤدي أيضًا إلى دولة واحدة.
تقترب فكرة “الدولة الواحدة” من نقطة اللاعودة كل يوم، لكنها ليست سيناريو حتميا، يتطلب هذا أولاً وقبل كل شيء، قيادة ذات رؤية وشجاعة لاتخاذ القرارات، وخاصة الفهم العميق للعمليات التاريخية.
في عام 2022، يبدو أن إمكان تحقيق رؤية الدولتين بروح أوسلو ضئيلة، بسبب تغير التضاريس في الضفة الغربية وانقسام النظام الفلسطيني، وما هو ممكن تعزيزه هو الفصل، وهو خط ترسيم يحدد أين ينتهي الفضاء اليهودي ويبدأ الفضاء الفلسطيني، ويوصى بمتابعة هذا الهدف بالتنسيق مع الفلسطينيين، ولكن إذا لم يتحقق ذلك فمن الممكن أيضاً دراسة التحركات أحادية الجانب.
وليس من الضروري وجود دولة مستقلة على الجانب الآخر من الخط، ومن المرجح أن يستمر الكيان الفلسطيني في الحفاظ على تقارب وثيق متعدد الأبعاد (وتبعية) مع “إسرائيل”، بل وسيشكل تحديات أمنية، ومع ذلك، فإن الفصل الإقليمي، كما فهمه بعض الآباء المؤسسين، بقيادة “إيغال ألون”، هو أحد الأصول الإستراتيجية: “لن تسمح بالتخلي عن السيف، لكنها ستساعد في تقليل المعضلات المحلية وتقوية فرص الحفاظ على دولة يهودية وديمقراطية ومستقرة”.
المقال يعبر عن رأي كاتبه
“د.مايكل ميلشتاين – رئيس منتدى الدراسات الفلسطينية في مركز دايان في جامعة تل أبيب وباحث أول في معهد السياسة والاستراتيجية في جامعة رايخمان”
Comments are closed, but trackbacks and pingbacks are open.