بقلم: نهاد أبو غوش
خلال خطابه في ألمانيا، وبحضور المستشار الألماني أولاف شولتس لامس الرئيس الفلسطيني محمود عباس عصبا حساسا لدى الرواية الصهيونية وداعميها، فنبش عشّ الدبابير الذي كان متحفزا للهجوم والانقضاض على الرئيس عباس وعلى فلسطين، بل وعلى مجمل الرواية الفلسطينية.
لا ترتبط شراسة الهجوم بموقف نظري من التاريخ القريب وحقيقة الكارثة (المحرقة) وضحاياها، بقدر ارتباطها بالصراع الدائر الآن على أرض فلسطين، من أجل إنهاء الظلم التاريخي الذي حاق بالشعب الفلسطيني، ووضْع حد لمعاناته المستمرة منذ عقود بالخلاص من الاحتلال وتلبية الحد الأدنى من حقوقه الوطنية والمشروعة.
المسألة إذن ليست إنكارا للمحرقة ولا ما يحزنون كما تردد الفرية الصهيونية ليل نهار، مستخدمة جميع وسائل الدعاية والبث الإعلامي وبكل لغات العالم، فموقف الرئيس أبو مازن ومواقف الفلسطينيين بشكل عام من جرائم النازية معروفة ومنشورة في مئات الكتب والدراسات والبيانات والتصريحات الإعلامية، عبر سنوات طويلة من عمر الثورة الفلسطينية ووثائقها وأدائها الإعلامي. ويكفي أن ندلل على ذلك من خلال الإشارة إلى العلاقات المتينة والمميزة التي ربطت فصائل منظمة التحرير جميعها، بأبرز ضحايا الوحش النازي وهم مواطنو الاتحاد السوفييتي، حيث تشير الاحصائيات المعروفة إلى سقوط نحو 20 مليون ضحية من المواطنين السوفييت من الروس وغيرهم من الشعوب ضحايا للعدوان النازي، ومن بين هؤلاء ثلاثة ملايين أسير عسكري ومدني سوفييتي أعدمتهم السلطات النازية في معسكرات الاعتقال.
ما يستفزّ إسرائيل إذن ليس إنكار المحرقة، ولكن التشكيك في كون اليهود هم الضحية الوحيدة أو الرئيسية للمحرقة، ثم بعد ذلك التشكيك في كون دولة إسرائيل الحالية هي الوريث القانوني والسياسي والأخلاقي لضحايا المحرقة، مع أن هذه الدولة أنشئت على حساب المأساة الفلسطينية، وتواصل حتى الآن قمع الشعب الفلسطيني واحتلال ارضه ومصادرة حقوقه الوطنية، ثم في وضع الإصبع على الجرح النازف وهو أن ضحايا المحرقة تحولوا إلى جلادين لغيرهم من الضحايا.
تريد إسرائيل إذن احتكار دور الضحية، فلا ضحية في التاريخ القريب والبعيد سواها، ولذلك نحتوا للمحرقة النازية تجاه اليهود مصطلحا خاصا هو تعبير “الهولوكوست” أو “شوآه” بالعبرية، وهذا لا ينطبق على نحو ثلاثين مليونا من ضحايا النازي، بما يشمل شعوب البلقان والشعوب السلافية والبولنديين والغجر والمسلمين والأفارقة فضلا عن معارضي النازية من الليبراليين والشيوعيين، وضحايا القتل الرحيم من ذوي الإعاقات الجسدية والعقلية.
تزعم الرواية الصهيونية أن الكارثة الاستثنائية في التاريخ تقتصر على اليهود، وتهون إزاءها كل كوارث الشعوب في كل زمان ومكان بما في ذلك جرائم الإبادة الجماعية للسكان الأصليين في الأميركيتين واستراليا، والإبادة الأرمنية، وجرائم إبادة السريان والأشوريين، والتطهير العرقي في يوغسلافيا السابقة، وبوروندي ورواندا، والأهم من كل ما سبق هو إنكار النكبة الفلسطينية التي تخللها عشرات المذابح والمجازر المتفرقة مثل دير ياسين والطنطورة والدوايمة. ولم يقتصر تنفيذ المجازر على ما يسمى “العنف المؤسس” الذي رافق إنشاء الدولة، بل تحولت المجازر الجماعية إلى أداة رئيسية من أدوات تنفيذ السياسة الإسرائيلية كما ثبت على امتداد العقود اللاحقة بدءا من مجزرتي قبية وكفر قاسم، ومرورا بمجازر قتل الأسرى المصريين في سيناء واللطرون، ومجازر صبرا وشاتيلا وقانا في لبنان وكفر أسد في شمال الأردن، وصولا إلى جريمة قتل أطفال عائلات نجم وأبو كرش والنيرب خلال العدوان الأخير على قطاع غزة.
احتكار دور الضحية، هو ترجمة للفكرة المركزية في الأيديولوجية الصهيونية عن “فرادة” اليهود وتميّزهم، واختلافهم عن باقي البشر، واستحالة قدرتهم على العيش في وئام وسلام وسط غيرهم من الشعوب لكونهم مكروهين بشكل دائم من قبل تلك الشعوب، وبالتالي فإن الحل الوحيد للمشكلة اليهودية يتمثل في أن تكون لهم دولتهم الخاصة ولا يهم على حساب من.
اكتسبت أفكار الفرادة والاستثناء واحتكار دور الضحية وإنكار مظلومية الآخرين مع الوقت أبعادا سياسية معاصرة تلائم المنحى التوسعي الاستيطاني للسياسة الإسرائيلية. فلكون اليهود ضحية لا نظير لها، ينبغي ألا تتكرر مأساتهم مرة أخرى، ويجب أن تكون لدولتهم “إسرائيل” حدود آمنة ومعترف بها، ولا يهم في هذا السياق أن تكون الأراضي التي تطمع إسرائيل في ضمها تابعة لغيرها من الشعوب مثل الجولان السوري المحتل والضفة الفلسطينية، ولعل هذه القضية بالتحديد هي العنوان المركزي للسياسة الإسرائيلية طيلة العقود الخمسة الماضية، فعطّلت جميع محاولات التوصل إلى تسوية سياسية.
كما تبرر إسرائيل حاجتها للتفوق العسكري النوعي على كل جيرانها في الشرق الأوسط، بأنها تواجه دائما خطرا وجوديا يتهددها، وأنها محاطة بأعداء يتحفزون دائما للقضاء عليها، وبالتالي فهي لا تطيق ولا تحتمل هزيمة أخرى، وبالتالي فإن المحرقة الفريدة في التاريخ لا يمكن لها أن تتكرر ولا ينبغي للعالم أن يسمح بتكرارها، وهي نفس الحجة التي تستخدمها إسرائيل في معارضتها الحادّة لتجديد الاتفاق النووي مع إيران التي يمثل اقترابها من امتلاك القدرات العلمية والصناعية النووية خطرا على العالم بأسره، بينما على هذا العالم أن يستوعب امتلاك إسرائيل لنحو مئتي رأس نووي لأنها الضمانة لعدم تكرار المحرقة.
احتكار دور الضحية، وفرادة اليهود وتميّزهم عبر التاريخ، يبرر أيضا الاتجاه الذي تمضي فيه إسرائيل بخطى حثيثة لبناء نظام فصل وتمييز عنصري (أبارتهايد) يقوم على هيمنة اليهود وتفوقهم على الفلسطينيين، فطالما أن إسرائيل عملت على تدمير حل الدولتين، وفشلت في بناء الدولة اليهودية النقية من “الشوائب” غير اليهودية، فإن الحل بسيط جدا وهو ضمان التفوق اليهودي المطلق، وحرمان الفلسطينيين من أي حق سياسي أو سيادي في أرضهم، وأقصى ما يمكن لليهود منحه للفلسطينيين هو بعض التسهيلات الاقتصادية والمعيشية التي تتيح لهم العمل في منشآت اليهود!
Comments are closed.