معرض فني يغرف من ماضي بيروت لمساءلة حاضرها المثقل بالأزمات

في مبنى تراثي أمسى متحفاً في قلب بيروت، يختلط أرشيف زاخر بأحداث تلخّص ماضي العاصمة الذهبي وما اختزنه من فساد خفي، مع أعمال فنية تحاكي حاضراً أنهكته أزمات متلاحقة، لترسم معالم بلد يعيش في حالة اضطراب دائم.


تخبر قصاصات صحف وأفلام نيغاتيف وبيانات دخول مستقاة من أرشيف “الكاف دي روا”، أحد أشهر الملاهي الليلية في عين المريسة في غرب بيروت في مرحلة ما قبل الحرب الأهلية (1975-1990)، عن سياسات رسمية خاطئة وفساد متأصّل وإضرابات عامة واحتجاجات طلابية طبعت حقبة هامة من تاريخ لبنان.

الى جانب هذا الأرشيف، يعرض عشرة فنانين يشاركون في المعرض الذي افتُتح الخميس بعنوان “ألو، بيروت؟” أعمالاً فنية معاصرة تتنوّع بين صور ومقاطع فيديو وتجهيزات تفاعلية، تحاكي رؤيتهم لحاضر بيروت المستنزف أيضاً بفعل الفساد وفشل السلطات السياسية المتعاقبة في إدارة أزمات البلاد.

وتقول مديرة المعرض دلفين أبي راشد دارمنسي لوكالة فرانس برس “من الغريب أحياناً شرح ما نشهده من دون معرفة ما حصل في الماضي”.

وتضيف “بيروت تعاني ونحن نعاني”، لافتة إلى أنّ الكثير من البؤس الذي يعيشه اللبنانيون اليوم متجذّر في أزمات الماضي.

وانطلقت فكرة المعرض، وفق القيمين عليه، من بحث دام عشر سنوات في أرشيف الملهى لمالكه بروسبير غي بارا (1914-2003)، وهو ملياردير لبناني التصق اسمه بالعصر الذهبي لبيروت ما قبل الحرب الأهلية.

واستُكملت ببحث في أرشيف الصحف والمجلات للإضاءة على تلك الحقبة من تاريخ لبنان.

ويعرض بين الأعمال الفنية نصّ لغي بارا كتب فيه، متحدثاً عن الطبقة السياسية حينها، “تلك العقول المريضة، المهووسة بجمع المال”، في انطباع ما زال سائداً بين اللبنانيين الذين أنهكهم انهيار اقتصادي غير مسبوق مستمر منذ نحو ثلاث سنوات وسط شلل سياسي.

وتقول دارمنسي “كان يتحدّث في الستينات عما نعيشه نحن اليوم”.

اليوم وبعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على انتهاء الحرب الأهلية، يعيش اللبنانيون ظروفاً صعبة للغاية على وقع الأزمة الاقتصادية التي صنّفها البنك الدولي من بين الأسوأ في العالم، وتداعيات انفجار مرفأ بيروت المروع في آب/أغسطس 2020.

وبات أكثر من ثمانين في المئة من السكان يعيشون تخت خط الفقر مع فقدان العملة المحلية أكثر من تسعين في المئة من قيمتها أمام الدولار. واختار كثر لا سيما من فئة الشباب الهجرة مع عجز السلطة السياسية عن تقديم حلول إنقاذية وتنفيذ إصلاحات توقف النزيف الحاصل.

ويعرض عشرة فنانين شباب، بدعوة من القيّم على المعرض روي ديب، أعمالاً تجسّد نظرتهم الخاصة الى بيروت اليوم، تتناول قضايا عدّة بينها احتجاجات 17 تشرين الأول/أكتوبر والأزمة الإقتصادية والهجرة والعلاقة مع مدينة قيد الإنهيار.

وتشارك روان ناصيف (38 عاماً) في المعرض عبر وثائقي قصير يعرض تاريخ حي المصيطبة البيروتي الذي نشأت فيه ثم عادت إليه بعد عقدين لرعاية والديها المريضين قبل وفاتهما خلال هذا العام.
\
وتقول لـوكالة فرانس برس إن الفيلم “يظهر تداعيات الخسائر” التي تعرضت لها بيروت، مضيفة “بيروت اليوم تنعى موتاها وتنعى كافة الفرص التي أتاحتها” سابقاً للقاطنين فيها ولروادها، قبل أن تخسرها تدريجياً.

ويجمع راوول ملاط (28 عاماً) في فيلم قصير بين مشاهد مصورة مستقاة من أرشيف العائلة خلال طفولته، ومقاطع أخرى ملتقطة حديثاً لبيروت.

ويروي لفرانس برس خلال افتتاح المعرض “ساعدني هذا المشروع كثيراً للتعبير عن حزني على بعض أوجه مدينتي التي لن أجدها مجدداً”.

وسيفتح المعرض أبوابه في مبنى “بيت بيروت” في محلة السوديكو على مدى عام كامل، وتواكبه برامج ثقافية متنوعة.

وللمبنى المؤلف من ثلاث طبقات خصوصية في ذاكرة لبنان. بناء على طلب عائلة بركات، شيّد المهندس المعماري البارز يوسف أفتيموس، وفق تصميم مميّز مبني على الزاوية المفتوحة، الطبقة الأولى منه في العشرينات من القرن الماضي.

وفي سنوات لاحقة، أضاف مهندس آخر الطبقتين العلويتين منه وفق الطراز المعماري ذاته.

مع اندلاع الحرب الأهلية، هجر آل بركات المنزل الأنيق في الشارع الذي تحوّل الى خط تماس رئيسي بين الأطراف المتقاتلة.

واتخذ قناصة من المبنى مقراً لهم وشهد على صولات وجولات من إطلاق الرصاص والمعارك العنيفة والنهب.

في العام 2017، أعيد افتتاح المبنى وتم تحويله الى متحف ومساحة ثقافية، قبل أن يعيد إغلاق أبوابه في السنوات الأخيرة.

من خلال الثقوب التي تركها المسلحون في جدران المبنى، يمكن اليوم مشاهدة لقطات من التظاهرات الاحتجاجية التي عمت لبنان على مدى أشهر بدءاً من 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، عبر شاشات صغيرة نصبت في فتحات الجدران.
ويُعرض في إحدى الغرف أثاث مهترئ ومقتنيات مدمرة تم جمعها من ملهى “كاف دي روا” المهجور.

وتحاكي كل من رولا أبو درويش ورنا قبوط من خلال تجهيز فني تشاركان به في المعرض فكرة الأنقاض ووجود لبنان المضطرب.
وتقول أبو درويش (38 عاماً) لـفرانس برس، “بُنيت بيروت على الأنقاض. بالنسبة إليّ، الأنقاض هي إحدى أبرز عناصر بيروت”.
وتضيف “إنها جزء من المكان حيث نعيش، وكيف نعيش ومن نحن. وأشعر أن الاتجاه الذي نسلكه اليوم سيتسبّب بمزيد من الأنقاض”.

Comments are closed.