من الزنزانة رقم 5 في القسم 2 في سجن الجلبوع، انطلقت عملية حفر ما بات يعرف فلسطينيا بـ”نفق الحرية”، في بداية كانون الأول/ ديسمبر الماضي، للتحرر من أكثر السجون الإسرائيلية حراسة؛ 9 شهور دامت عمليات الحفر، وسط الأسوار العالية والأسلاك الشائكة والحراسة المعززة والكاميرات المتطفلة، كل ذلك لم يمنع أسرى عملية الجلبوع من رؤية نور الحرية في نهاية النفق.
لم تغب إمكانية إعادة اعتقالهم عن ذهن الأسرى خلال عمليات الحفر، غير أن التوق إلى الحرية وتنشق هواء فلسطين والتمتع بثمار بساتينها والتعرض لشمسها ورؤية الأهل والأحباب، شكلت دافعا لهم للمواصلة. لم تكن عملية اعتباطية أو عشوائية، بل كانت مدروسة منذ أن لمعت كفكرة في ذهن الأسير محمود عارضة.
كل ذلك يتضح من حديث الأسيرين محمود ومحمد عارضة إلى محاميهما، فجر اليوم الأربعاء، نقله الأخيران إلى مراسلي “عرب 48″، محمد محسن وتد وضياء حاج يحيى، ويكشف النقاب عن تفاصيل عملية حفر النفق ووجهة الأسرى وتفاصيل عملية إعادة الاعتقال وما يتعرض له الأسرى من تعذيب وتنكيل واعتداءات في معتقل الجلمة.
صاحب الفكرة
أكد الأسير محمود عارضة في إفادته للمحامي رسلان محاجنة، خلال اللقاء الذي جمعهما فجر اليوم، الأربعاء، في معتقل الجلمة، أنه صاحب الفكرة والمخطط والمنفذ لعملية حفر النفق والفرار من السجن، كما أكد الأسير محمود أنه يتحمل كامل المسؤولية عن عملية سجن الجلبوع.
وقال محاجنة، إن “المخابرات تعتبر الأسير محمود عارضة المنفذ والمخطط لعملية الهروب، وهو بدوره لم ينكر أنها فكرته، ويتحمل المسؤولية كاملة”.
وتحدث محاجنة عن شخصية الأسير محمود عارضة، وقال إنه “إنسان غير عادي بفكره وذهنه اللامحدود. إنسان واع وذكي من الطراز الأول. مهندس ومتعلم وإنسان مثقف بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، يتحدث بثقة دون لعثمة. واثق من كل كلمة يلقيها”.
خطة هندسية مفصلة
امتلك الأسير محمود عارضة، خطة هندسية دقيقة لعملية الهروب، وكان مطلعا على جميع الارتفاعات والأبعاد والمسافات للنفق الذي قرر حفره تحت أساسات أكثر السجون الإسرائيلية تحصينا. خطط الأسير لنقطة بداية النفق ونهايته ونقطة الخروج إلى الحرية، كما روى المحامي محاجنة.
وقال محاجنة “قد يعتقد الكثيرون أن العملية كانت عشوائية وهذا خطأ. كان لدى الأسير محمود عارضة خطة مدروسة ومرسومة منذ الخطوة الأولى لعملية الحفر، كان يملك الأبعاد التي سيحفرها، والارتفاعات، والمساحة والمسافة، أين نقاط التماس وأين نقاط الضعف، وأين ستكون نقطة الدخول وأين ستكون نقطة الخروج تحديدا، كانت الصورة لديه واضحة والخطة في غاية الدقة”.
عملية الحفر استمرت 9 شهور
انطلقت عملية حفر النفق في بداية شهر كانون الأول/ ديسمبر من العام 2020، واستمرت قبل تحرر الأسرى من النفق بيوم واحد، أي أن عملية الحفر استمرت نحو 9 شهور، كما أوضح الأسير محمود عارضة.
ونقل المحامي محاجنة تفاصيل خطة الهروب كما رواها الأسير محمود قائلا: “قمت بالتحضير للخطة وشرعت بحفر النفق في شهر كانون الأول/ ديسمبر الماضي وانجزت المهمة مطلع أيلول/ سبتمبر الجاري”.
وعن الأدوات التي استخدمها الأسرى في عمليات الحفر، قال محاجنة: “الكثير من الأدوات استعملت في عملية الحفر، بعيدا عن الأدوات الحادة التي لا يمكن إدخالها إلى السجن”.
وأوضح محاجنة أن الأسرى استخدموا “أدوات من الخشب تم شحذها بصورة جيدة كي تتلاءم مع ظروف الحفر، بالإضافة إلى صحون وملاعق ومقالٍ، وأي أدوات صلبة كانت بحوزتهم”.
وأوضح أن الأسرى “قاموا بنثر الرمال في نظام الصرف الصحي وفي حاويات القمامة”.
وأضاف محاجنة على لسان عارضة “تقرر الهروب مع الأسرى الخمسة الذين لم يعرفوا تفاصيل الخطة، حيث انضم إلينا زكريا الزبيدي في اليوم الأخير لنذهب جميعا إلى جنين”.
الوجهة كانت جنين
تمكن الأسرى الستة من الهروب فجر الإثنين 6 أيلول/ سبتمبر الجاري، وساروا مشيا على الأقدام حتى بلدة الناعورة، حيث كان بحوزة الأسير محمود عارضة جهاز راديو صغير وعبره تتبع تطورات الأحداث والاستنفار الأمني والعسكري الإسرائيلي بحثا عنهم.
كانت وجهة الأسرى بحسب الخطة التي سردها محمود العارضة، هي مدينة جنين، بيد أنه وبسبب الاستنفار الأمني ومحاصرة جنين والانتشار العسكري في شمال الضفة الغربية ومنطقة جبل فقوعة وجدار الفصل، قرر الأسرى إرجاء التوجه لجنين وقسموا أنفسهم إلى 3 مجموعات والاختفاء عن الأنظار لحين أن تهدأ الأوضاع.
وقال محاجنة: “وجهة الأسرى كانت إلى الضفة الغربية، ولكن حين وصلوا إلى قرية الناعورة، كان مع الأسير محمود جهاز راديو صغير، علم الأسرى من خلاله أن قوات الأمن بدأت تتحرك وأغلقت كل نقاط التماس مع الضفة الغربية، وهناك قرروا الانفصال إلى 3 فرق”.
وأكد الأسير محمود عارضة أن الأسرى لم يخططوا ولم يفكروا بالتوجه إلى الأردن أو سورية.
وعن عملية المطاردة ، أوضح محاجنة أن “الأسرى كانوا يمتلكون هاتفا صغيرا، لم يجروا منه سوى اتصالين. كانوا حذرين جدا وعلى علم بأن جميع الهواتف مراقبة من قبل المخابرات. حين علموا بتواجد مكثف للقوات في محيط سجن الجلبوع وعلى نقاط التماس مع الضفة الغربية، توجهوا شرقا للمكوث فترة قليلة حتى تخفت الحركة الأمنية للقوات الإسرائيلية عند نقاط التماس مع الضفة الغربية، ومن ثم الدخول إلى جنين”.
وأوضح المحامي رسلان محاجنة أن الأسرى الستة “اتفقوا فيما بينهم على عدم دخول البلدات العربية وعدم طلب المساعدة والإسناد من أي مواطن فلسطيني في الداخل، وذلك بغية تجنيب المواطنين العرب أي مساءلة جنائية بحسب القانون الإسرائيلي”، وأكد أن “جميع الأسرى على قناعة أنهم لو طلبوا المساعدة والعون من المواطنين العرب بالداخل لكان لهم ذلك”.
وقال محاجنة، أن الأسير محمود “كان يرتدي جوارب ابنة شقيقته الصغيرة خلال عملية الهروب. وخلافا لما أشيع فإن موكلي قال إنه عثر عليه صدفة حين مرت سيارة شرطة إسرائيلية بالصدفة والتي كانت السبب في اعتقاله مع الأسير يعقوب قادري”.
عارضة يبين زيف رواية الاحتلال
ونفى الأسير عارضة ما روج له من إشاعات بأنه والأسير قادري طلبا الطعام من عائلة في الناصرة أو أن أحد الأشخاص شاهدهما يعبثان بالقمامة بحثا عن الأكل وبلغ عنها، قائلا: “تواجدنا على جبل القفزة قرب الناصرة وعن طريق الصدفة مرت سيارة شرطة كان بداخلها شرطي واحد الذي قام باستدعاء قوات خاصة معززة قامت بمحاصرتنا واعتقالنا. عملية الاعتقال تمت عن طريق الصدفة ليس إلا”.
وأبدى الأسير محمود العارضة قلقه حيال ما يتعرض له الأسرى في السجون الإسرائيلية من تنكيل وعمليات انتقام وسلب للإنجازات التي حققوها لتحسين أوضاعهم في السجون، نافيا مزاعم مصلحة سجون الاحتلال الإسرائيلي أن 11 أسيرا في سجن الجلبوع كانوا على دراية بخطة النفق وعملية الهروب وشاركوا في حفر النفق.
وأعرب الأسير محمود عارضة عن ارتياحه لموقف فصائل المقاومة باشتراط أي صفقة تبادل مستقبلية بضم أسرى عملية الجلبوع الستة، مؤكدا أنه “قرر الهروب من السجن وانتزاع حريته بعد أن وصل لقناعة بأن تحريره كما باقي الأسرى القدامى بات مستحيلا”.
هتافات الشباب في الناصرة عززت شعور الانتصار
وأكد الأسير محمود العارضة، أنه لم يغفل عن إمكانية أن يتم إلقاء القبض عليه ورفاقه وإعادتهم إلى السجون الإسرائيلية، لكنه على قناعة بأن عملية الجلبوع إنجازا للحركة الأسيرة ونجحت في تشكيل حالة وحدوية للشعب الفلسطيني.
وقال إن الأسرى شعروا بنشوة الانتصار والإنجاز الذي حققوه عندما تم نقلهم بسيارة السجون لمحكمة الناصرة، مساء السبت الماضي، حيث سمعوا هتافات المناصرين تعلوا من على جانبي الطريق.
وعبّر عارضة، بحسب شهادته، عن الدهشة عندما شاهد الأسرى الشبان يرفعون صورهم ويلوحون بالعلم الفلسطيني في ساحة المحكمة في الناصرة، وهو مع عزز من معنويات الأسرى الأربعة وزاد من صلابة موقفهم وأيقنوا أن ما قاموا به لم يذهب أدراج الرياح.
وأوضح محاجنة إلى أن “التحقيق مع الأسير محمود عارضة استمر يوميا بين 17 و18 ساعة، يتعرض فيها للتعذيب المتواصل من قبل المحققين”.
طعم الحرية في ثمرة الصُبّار
ذات الانطباع خرج منه المحامي خالد محاجنة الذي التقى الأسير محمد العارضة الذي بدا منهكا ومتعبا من جراء التعذيب والتنكيل الجسدي وإخضاعه للتحقيق يوميا لمدة 18 ساعة متواصلة، من قبل طاقم من المحققين يصل عددهم إلى 8 أو 10 من المحققين.
وأوضح خالد محاجنة أن الأسير محمد عارضة يحرم من تلقي العلاج رغم الجروح والإصابات التي تعرض لها بسبب الاعتداء عليه من قبل عناصر الوحدات الخاصة حين تم اعتقاله مع الأسير زكريا الزبيدي قرب قرية الشبلي في مرج ابن عامر.
وأوضح محاجنة أن محمد عارضة “جُرِّد من ملابسه لساعات طولية، ونُقل عاريا إلى معتقل المخابرات في الجلمة، وحرم من النوم ليومين على الأقل، بعد تعرضه لتحقيقات مكثّفة من اجل كسر هزيمته”، ولفت إلى أن “المحققين يحاولون مساومته بتهم أمنيّة، في محاولة لتوريطه، هذا عدا عن لإهانات والتهديدات بالقتل التي يتعرض لها حتى الآن من قبل المحققين”.
ونقل المحامي خالد محاجنة، شهادة الأسير محمد عارضة الذي انتزع حريته لخمسة أيام بعد 22 عاما في غياهب السجون الإسرائيلية، مشيرا إلى أن التنقل في ربوع وسهول وجبال فلسطين بعثت لديه الحياة من جديد.
كانت فرحة الأسير محمد عارضة لا توصف رغم أنه مطارد حين كان يتجول في الجبال والسهول وأكل من تين وصبار الوطن لأول مرة منذ 22 عاما. وقال محاجنة إن “الأسير محمد حلم أنه يأكل الصبر وهو داخل السجن، وهذا الحلم تحقق حين قطف بعض حبات الصبر وأكلها من سهول مرج بن عامر”.
خففت هذه الأيام عن الأسير محمد عارضة معاناة سنوات الأسر الطويلة، حيث ذاق طعم الحرية لأيام، كما أن مشاهد التضامن والدعم في الناصرة خلال عرضهم على المحكمة كانت محطة فارقة في حياة الحركة الأسيرة التي تعززت قناعاتها بأن الشعب الفلسطيني يتوحد خلف قضية الأسرى.
وبعث الأسير محمد عارضة برسالة إلى الشعب الفلسطيني بالتمسك والوحدة والنضال المشترك حتى التحرر والاستقلال، داعيا كل من ينشط نصرة لقضية الأسرى، مواصلة النضال من أجل تحرر الأسرى من سجون الاحتلال، مؤكدا أنه “تعززت لديه القناعات أنه سينتزع حريته مستقبلا”.
Comments are closed, but trackbacks and pingbacks are open.