أسبوع مؤلم هو ذاك الذي مر على العالم العربي عامة وأهل فلسطين خاصة، فقد جاء إستشهاد الصحافية الفلسطينية المقدسية شيرين أبو عاقلة، ليعيد الجميع قراءة ملف القضية الفلسطينية بعين مغايرة لما جرت به المقادير في الأعوام الأخيرة.
أن تقتل قوات جيش الإحتلال، صحافية مدنية ترتدي سترة واضحة تفيد بأنها لا تحمل سلاحا، هذا إن اعتبرنا أن الكاميرا ليست سلاحا يرهب المحتل، فذاك شيئ خارج عن كل ما هو مألوف أو معروف أو موصوف، ولا يمكن سوى أن نسمى الأشياء بمسمياتها ..هي وحشية..وليست أقل من ذلك.
خلال العامين الماضيين، وتحديدا منذ سبتمبر 2020، حين فتحت دولة الإمارات العربية المتحدة الباب واسعا لمرحلة جديدة من السلام مع إسرائيل، ومعها مملكة البحرين، وقبلهما بأربعة عقود فعلت مصر، كان الجميع يحلم بأن يتوقف “سلسال الدم”، في الشرق عامة وعلى الأرض الفلسطينية خاصة، وأن تكون هناك بداية جديدة للصفح والمصالحة بهدف التوصل إلى اتفاق سلام شامل وعادل، يعيد الحقوق لأصحابها، ويسمح بقيام دولة فلسطينية على التراب الوطني.
دفعت التطورات السياسية في المنطقة كذلك، وميل إيران العدائي، وتوجهاتها النووية، إلى إحياء تحالف جيوسياسي في المنطقة الشرق أوسطية، ومن هنا جاء لقاء النقب، والذي كان يعد قبل بضعة عقود ضربا من المستحيل.
قطع العرب شوطا بعيدا في تقديم حسن النوايا، والتطلع إلى مستقبل سلمي آمن للأجيال القادمة، عربا وإسرائيليين، غير أن اغتيال إعلامية مجردة من السلاح، وبهذه الصورة الفائقة القسوة، ثم المشاهد الوحشية للتعاطي مع جنازة الراحلة، وقد كاد نعشها أن يهوي بجثمانها على الأرض، فيما أكف شباب القدس الصامدة الصابرة يحملونها، جميعها دفعت العالم العربي من المحيط إلى الخليج للتوقف والتساؤل بعقلانية حينا وبعاطفة غالبة لها ما يبررها أحيانا.. هل هذه دولة لها دالة على السلام؟
بعيدا عن العبارات التي تجيش بها النفس، يمكن القطع بأن هناك أصوات زاعقة ورايات فاقعة ترى أن إسرائيل تخشى من السلام، بأكثر من خوفها من الحرب.
دعونا نذكر بما أشرنا إليه مرات عدة من قبل وهو ما جاء على لسان الجنرال، إسرائيل ليور، مدير مكتب ليفي أشكول رئيس وزراء إسرائيل خلال حرب الستة أيام، فقد روى أن أشكول كان يصيح بأعلى صوته قائلا: “هل يريد هؤلاء العيش على حد السيف إلى الأبد”.
أما هولاء فقد كانت عائدة على جنرالات الجيش الإسرائيلي، الذين احتلوا بالحرب، ما كان من المستحيل أن يحافظوا عليه بالسلم، وهو عينه ما جعل بعض شعراء إسرائيل يرون أن الطفل الإسرائيلي يولد ومعه السكين الذي سيقتل به.
فقدت إسرائيل باغتيال شيرين أبو عاقلة مناخا كان قد بدأ يميل إلى نسيان الماضي، وبداية مسيرة جديدة من التعاون الإنساني لمصلحة الشعوب ..
هل خسارة إسرائيل موصولة بالعالم العربي فقط ؟
واقع الأمر يخبرنا بأن إسرائيل فقدت في الأسبوع الأخير دعما وزخما أمريكيا كبيرا، يختصم من نفوذها التقليدي التاريخي هناك ..
بإختصار غير مخل، كانت الولايات المتحدة الأمريكية ، لعقود طوال، الكفيل الخاص بإسرائيل، وهي كفالة أدبية ومادية ومعنوية في ذات الوقت، فهي السيف والترس الواقي في الحروب، وهي الدرع الذي يصد عنها رغبات المجتمع الدولي في الإدانة في المحافل الدولية، وهي الممول الذي لا يبخل عن تلبية المتطلبات الإسرائيلية بمجرد الإشارة.
ليس سرا أن هناك تغيرات جوهرية في الرؤية الأمريكية الشعبوية قبل الحكومية لدولة إسرائيل، ويكفي النظر إلى الهوة الواسعة القائمة بين رؤية الإسرائيليين للإشكالية الإيرانية، وبين المصالح والأهداف الأمريكية البراغماتية الساعية للتوصل إلى إتفاق نووي جديد مع الملالي، ولتذهب إسرائيل ما شاء لها أن تذهب من غضب .
يكتب قبل أيام القطب السياسي الديمقراطي الأمريكي الجنسية العربي الأصل البروفيسور جيمس زغبي حول هذه الإشكالية يقول :” تراجعت معنويات الجماعات المؤيدة لإسرائيل في الولايات المتحدة والأمثلة كثيرة منها ضغط هذه الجماعات بالتنسيق مع الحكومة الإسرائيلية على أكثر من 30 ولاية لتجريم دعم جهود مقاطعة إسرائيل وسحب الإستثمارات منها “.
حتى بدايات الألفية الثالثة كان نقد إسرائيل في الداخل الأمريكي بمثابة المكافئ الموضوعي ل” المعاداة للسامية “، كما كان الحديث عن عدالة القضية الفلسطينية أمر يستجلب وبالا على صاحبه .
اليوم يتزايد الدعم للفلسطينيين وترتفع الدعوات في إنتقاد إسرائيل، ومن غير أدنى خوف من توجيه إتهامات بالعمالة للعرب أو الفلسطينيين، وبخاصة بعد أن زادت الأصوات بين الديمقراطيين من الأنجلو ساكسون، وهم الذين دعموا إسرائيل على مدى الثمانية عقود الماضية، وبين الأمريكيين الأفارقة، واليوم تنضم إليهم أصوات من أصحاب الأصول الأسبانية، إضافة إلى مفاجأة أخرى تتمثل في اليهود الأمريكيين الرافضين لوحشية إسرائيل، والذين يعتبرون أن دعمها على هذا النحو، يعني مساعدتها في الإنتخار البطئ يوما تلو الأخر .
قبل عقدين من الزمن لم يكن أي من المرشحين للكونجرس بمجلسيه الشيوخ والنواب يهتم من قريب أو بعيد، بأن يضع القضية الفلسطينية على جدول أعماله …
هذا الوضع تغير اليوم وبات الأمر موضعا للنقاش والجدل، ووسط إعلام لم يعد منحازا بمطلقية المشهد للدولة الإسرائيلية، سيما بعد رؤية ضحايا العنف الإسرائيلي من أصحاب الكلمة المجردة عن القوة .
قلب إستشهاد شيرين أبو عاقلة الطاولة في الداخل المجتمعي الأمريكي ضد إسرائيل، بصورة أو بأخرى، لا سيما في أوساط الفنانين والمفكرين .
في مقدمة هؤلاء، الممثل الأمريكي وأحد أبطال سلسلة ” غيم أوف ثرونز “، الشهيرة ، ليام كونينغهام، والذي روج لمنشور يصحح فيه عنوان صحيفة النيويورك تايمز وقد ورد على النحو التالي.. “وفاة الصحفية شيرين ابو عاقلة عن 51 عاما “، إلى ” مقتل الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة من قبل قناص إسرائيلي بينما كانت ترتدي سترة الصحافة لتغطي وحشية الجيش الإسرائيلي “.
أما الممثل والمخرج الأمريكي، مارك رافلو، فقد أدان بقوة إغتيال شيرين قبل القوات الإسرائيلية، وقد كتب على تويتر يقول: “خسارة كبيرة أخرى للشعب الفلسطيني، وللديمقراطية ، القائمة طويلة ووحشية وقاسية”.
الحديث ممتد، وواشنطن تجد نفسها مضطرة للتصريح بضرورة إجراء تحقيق مستقل لا سيما وأن شيرين تجمل الجنسية الأمريكية .
الخلاصة…الخرق الإسرائيلي في أسبوع اتسع على الراتق، وما بين العرب والأمريكيين، يبدو المأزق الإسرائيلي مستمر ومستقر، إلى حين إشعار آخر.
Comments are closed.